القصةُ باطلةٌ ولا شك، وهي مِن رواية كعب الأحبار كما قال
الإمام أحمد. لكن هل يعني هذا أن هاروت وماروت ليسا مِن الملائكة ولم
يُعَلِّما السحر؟ أمَّا كونهما مِن الملائكة: فهذا هو القطعيُّ بقوله سبحانه {عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}. قال الطبري في تفسيره: ((وحُكِيَ عن بعض القُرَّاء أنه كان يقرأ : {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ}، يعني به رجلين مِن بني آدم. وقد دلَّلنا على خطأ القراءة بذلك مِن جهة الاستدلال. فأمَّا مِن جهة النقل، فإجماعُ الحُجَّةِ على خطأ القراءة بها مِن الصحابة والتابعين وقُرَّاء الأمصار. وكفى بذلك شاهداً على خطئها)). اهـ وأمَّا أنهما كانا يُعلِّمان السحر: فهذا هو قوله سبحانه {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}. فقوله {يُعَلِّمَانِ} هما هاروت وماروت، وقوله {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} القائل هنا هاروت وماروت، وقوله {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} أي مِن هاروت وماروت.
وأمَّا القولُ بأنَّ {مَا} للنفي، فلا نصيب له مِن الصواب. قال الطبري: (("ما"
إِنْ وُجِّهَتْ إلى معنى الجَحْد، تَنفي عن الملَكين أن يكونا مُنْزَلاً
إليهما! ولم يخلُ الاسمان اللذان بعدهما - أعني هاروت وماروت - مِن أن
يكونا بدلاً منهما وترجمةً عنهما، أو بدلاً مِن الناس في قوله {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وترجمةً عنهما. فإنْ جُعلا بدلاً من {الملَكين} وترجمةً عنهما، بطل معنى قوله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}! لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه، فما الذي يَتعلم منهما مَن يفرق بين المرء وزوجه؟! وبعدُ فإنَّ "ما" التي في قوله {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} إنْ كانت في معنى الجَحْد عطفاً على قوله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، فإنَّ الله جلَّ ثناؤه نَفَى بقوله {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} عن سليمان أن يكون السحرُ مِن عَمَلِه أو مِن عِلمه أو تعليمه. فإنْ
كان الذي نُفِيَ عن الملكين مِن ذلك نَظيرَ الذي نُفِيَ عن سليمان مِنه،
وهاروتُ وماروتُ هما الملكان: فَمَنْ المتعلَّم منه إذًا ما يفرق به بين
المرء وزوجه؟ وعمَّن الخبرُ الذي أخبر عنه بقوله {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}؟ إنَّ خطأ هذا القولِ لَواضحٌ بَيِّنٌ)). اهـ
قلتُ: والنافون لِكَوْنِ هاروت وماروت ملَكَيْن عَلَّمَا
السحرَ قالوا بهذا لبطلان القصة التي تُروَى فيهما، مع أنه لا يَلزم مِن
بطلان القصة تَرْكُ قطعيِّ الكتاب! وأمَّا الذين نَسَبوا هذين الملَكين إلى
المعصية، فإنما كان مستندهم هو القصة الباطلة لا الآية الكريمة إذ ليس في
الآية ما يقدح في هذين الملَكين. فلعمري جعلوا حكايات الناسِ قاضيةً على
قوله المُحْكَم سبحانه {لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ} فجوَّزوا عليهم المعصيةَ جَمْعاً بين كلام الله وكلام البشر!