منهاج السنة للرد على الشيعة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


الأحد مايو 19, 2024 4:38 pm
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خبر الواحد المتلقَّى بالقبول

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
منهاج السنة
لا اله الا الله محمد رسول الله
لا اله الا الله محمد رسول الله
منهاج السنة


خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Vitiligo-ae30eb86b8خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Iraqiaabc6667cb59
عدد المساهمات : 897
تاريخ التسجيل : 27/10/2012

خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Empty
مُساهمةموضوع: خبر الواحد المتلقَّى بالقبول    خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 06, 2012 8:01 am

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه ومَن تبع هديه


... وبعد ،،،

فقد
اتَّفَقَتْ كلمةُ علماء الأصول على وجوب العمل بخبر الواحد الذي تلقَّته
الأمة بالقبول، وإنما وَقَعَ الخلافُ بينهم في إفادته للعلم والقطع بصدقه.
فمنهم مَن قال إنه يفيد العلم، ومِنهم مَن نفى ذلك. وقد اجتهدتُ في أن أجمع
شتاتَ المسألة مِن كُتُب الأصول وأُحَقِّق نِسبةَ الأقوال إلى أصحابها،
والكمال لله وحده. وقبل أن نستعرض أقوال العلماء، نُمَهِّدُ بالكلام عن
تقسيم العلم وتقسيم الأخبار لدى الأصوليين. والله الموفق.


تقسيم العلم
اختلفت
آراء العلماء في تفاوت العلم مِن حيث الضرورة والاكتساب: فمِنهم مَن قال
إن العلم لا يكون إلاَّ ضرورياً، وعلى هذا القولِ إمامُ الحرمين وغيرُه.
ومِنهم مَن قال إنَّ مِنه ما هو ضروريٌّ ومِنه ما هو مكتسبٌ، وهو قول
الجمهور.

1- العلم الضروري: هو الذي يقع مِن غير نظرٍ ولا استدلالٍ، ويُسمَّى أيضاً العلم اليقيني.
2- العلم المكتسب: هو الذي يقع بالنظر والاستدلال، وهو منحطٌّ عن اليقين. ويُسمَّى أيضاً العلم النظري وعلم الظاهر. [يُنظر: البحر المحيط للزركشي 1/58 فما بعد]
وأَقْدَمُ مَن وقفتُ على تقسيمه للعلوم هو الكرخي [ت 340 هـ] إذ يقول في أصوله (ملحقة بتأسيس النظر للدبوسي ص166): ((الأصلُ: أنه يُفرَّق بين العلم إذا ثبت ظاهراً، وبينه إذا ثبت يقيناً)). اهـ


تقسيم الأخبار
قسَّم
العلماءُ الأخبارَ إلى قسمين: متواتر، وآحاد. إلاَّ أن الحنفية ومَن
وافقهم استحدثوا قسماً وسطاً بينهما أسموه المشهور والمستفيض، وهو ما ارتفع
عن درجة الآحاد وانحطَّ عن درجة المتواتر. فصارت القسمة ثلاثية:

1- المتواتر: وهو ما نقله جمعٌ عن جمعٍ يمتنع تواطؤهم على الكذب.
2- المستفيض: وهو خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول، ويُسمَّى أيضاً المشهور.
3- الآحاد: وهو ما لم يتواتر ولم يستفِض.


إفادة المتواتر للعلم اليقيني
جمهور
الأصوليين على أن الخبر المتواتر يفيد العلم الضروري اليقيني، وخالفهم في
ذلك أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي فذهب إلى أنه يفيد العلم المكتسب لا
الضروري فقال (التمهيد 3/25): ((
إن
خبر الله سبحانه وخبر رسوله أقوى مِن أخبارنا، ثم العلم الواقع عن ذلك
مكتسبٌ مِن جهة الاستدلال لا مِن جهة الضرورة. فأَوْلَى أن تكون أخبار
غيرهما كذلك
)). اهـ


إفادة الآحاد للظن
ذهب العلماءُ إلى أن خبر الواحد المجرَّد لا يفيد العلم بل الظن، وخالفهم في ذلك ابن خويزمنداد المالكي
390 هـ] فقد ذَكَرَ عنه المازريُّ في كتابه "إيضاح المحصول" (ص442) أن خبر
الواحد عنده يوجب العلم الضروري بأسبابٍ تقوِّيه وتعضده كعدالة الراوي
وصدقه. ثم قال: ((فمجموع أمثال هذه الأحوال يراها كالقرينة المضامة لخبر الواحد المقتضية للعلم الضروري)). اهـ
وقد نَسَبَ ابنُ خويزمنداد هذا الرأيَ إلى مالك، ولم يوافقه أهلُ المذهب
عليه. وقال به أيضاً ابنُ حزم الظاهري [ت 456 هـ] فذهب إلى أنه يفيد العلم
اليقيني، فقال في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" (1/124): ((
ثبت يقيناً أن خبر الواحد العدل عن مَن مِثلُه مبلغاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقٌّ مقطوعٌ به موجبٌ للعمل والعلم معاً)). اهـ





مذاهب العلماء في الخبر المستفيض
نظرتُ في مصنَّفات أهل الأصول لأقفَ على أقوالهم في تلك المسألة، فوجدتهم على ثلاثة مذاهب:
1- قوم قالوا إن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم اليقيني.
2- وقوم قالوا لا يوجب العلم اليقيني بل العلم النظري
3- وقوم قالوا لا يوجب العلم لا يقيناً ولا نظراً بل يوجب الظن لأنه آحاد

القائلون بإفادته للعلم اليقيني
أَقْدَمُ مَن وقفتُ
عليه مِن القائلين بهذا الرأي هو أبو هاشم الجبائي [ت 321 هـ] أحد أئمة
المعتزلة، وتَبِعَه فيه تلميذُه أبو عبد الله البصري [ت 369 هـ]. قال أبو
الحسين البصري المعتزلي في كتابه "المعتمد" 2/555): ((فأمَّا
خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على مقتضاه وحكمت بصحته، فإنه يُقطع على صحته
لأنها لا تُجمِع على خطأ. وإن لم تُجمِع على صحته، فعند الشيخ أبي هاشم
وأبي الحسن وأبي عبد الله رحمهم الله أن الأمة لا تُجمع على مقتضى خبر
الواحد إلاَّ وقد قامت به الحجة
)). اهـ وأبو الحسن المذكور هنا هو
أبو الحسن الكرخي، ولم أقِف على قوله في هذه المسألة. ولعلَّ تقسيمه للعلم
في أصوله الذي ذكرناه آنفاً يجعله مِن القائلين بإفادة الخبر المتلقَّى
بالقبول للعلم الظاهر وليس اليقيني. وقد اعتمد الرازيُّ كلامَ أبي الحسين
البصري هنا في نِسبة هذا القول إلى الكرخي.


وقد وافقَ أبا هاشم الجبائيَّ في هذا القرافيُّ [ت 684 هـ] فقال في كتابه "نفائس الأصول" (7/2878) ردَّاً على الرازي: ((مُسَلَّمٌ
أنه يجوز الإقدام على العمل بالخبر الذي لا يُقطع بصدقه. لكن إذا عملوا به
وهو عندهم خبر واحدٍ غير معلوم الصدق لهم، صار معلوم الصدق لنا. لأنهم
معصومون عن العمل بالخطأ، فيُقطع بصدق ما عملوا به. وهو الذي قاله أبو هاشم
)). اهـ

وقال به أيضاً ابن تيمية [ت 728 هـ] فقال في كتابه "مجموع الفتاوى" (18/48): ((وأيضاً
فالخبر الذي تلقَّاه الأئمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً بموجبه، يفيد
العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معنى المتواتر. لكنْ مِن الناس مَن
يسمِّيه: المشهور والمستفيض. ويقسِّمون الخبر إلى: متواتر، ومشهور، وخبر
واحد
)). اهـ وقال في كتابه "جواب الاعتراضات المصرية" (ص43): ((والقسم
الثاني مِن الأخبار: ما لم يَرْوِه إلاَّ الواحد العدل ونحوه ولم يتواتر
لا لفظه ولا معناه، ولكن تلقَّته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له. كخبر
أبي هريرة: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها". فهذا يفيد العلم
اليقيني أيضاً عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم مِن الأولين
والآخرين
)). اهـ وذكره أيضاً في كتابه "مقدمة في أصول التفسير" (ص67) فقال: ((جمهور
أهل العلم مِن جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول
تصديقاً له أو عملاً به، أنه يوجب العلم. وهذا هو الذي ذكره المصنِّفون في
أصول الفقه مِن أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلاَّ فرقة قليلة
مِن المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفةً مِن أهل الكلام أنكروا ذلك. ولكن
كثيراً مِن أهل الكلام - أو أكثرهم - يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف
على ذلك
)). اهـ ونِسبتُه هذا القولَ إلى جمهور الأصوليين فيه نظرٌ، كما سيتبيَّن مِن أقوالهم.




القائلون بإفادته للعلم النظري
لمَّا استحدث الحنفيةُ
منزلةً بين التواتر والآحاد، أوجبوا لها علماً فوق الظن ودون اليقين.
ونَقَلْنا قولَ الكرخي في تقسيمه العلم إلى ما ثبت يقيناً وما ثبت ظاهراً،
وهو ما سار عليه الحنفيةُ مِن بعده ووافقهم فيه غيرهم. إلا أن هؤلاء قد
انقسموا إلى فريقين:

(1) فريقٌ يرى أن اتفاق الأئمة على العمل بمقتضى الخبر يوجب العلم النظري، سواءٌ اعتقد الأئمةُ صحته أم لا.
(2) وفريقٌ على التفصيل
فيرى أن مجرَّد اتفاقهم على العمل بالخبر لا يوجب العلم النظري ولا القطع
بالصحة، بل يشترطون أن يكون الأئمة قد اعتقدوا صِدْقَ الخبر أولاً
وتيقَّنوا صحَّته وإلاَّ فهو ظنيٌّ باعتبار الأصل.


الفريق الأول: مِن القائلين بأن الخبر المتلقَّى بالقبول يوجب العلم النظري على إطلاقه: الشاشي [ت 344 هـ] فقال في أصوله (ص71): ((والمشهور:
ما كان أوَّلُه كالآحاد ثم اشتُهر في العصر الثاني والثالث وتلقته الأمة
بالقبول، فصار كالمتواتر حتى اتصل بك. وذلك مثل حديث المسح على الخف،
والرجم في باب الزنا. ثم المتواتر يوجب العلم القطعي، ويكون ردُّه كفراً.
والمشهور يوجب علم الطمأنينة، ويكون ردُّه بدعة
)). اهـ


وذهبَ
إليه أيضاً أبو بكر الجصَّاص [ت 370 هـ] إلاَّ أنه جعل الخبر المشهور
قسماً مِن أقسام المتواتر، ولكنه لم يوجب له العلم اليقيني بل النظري. فقال
في كتابه "الفصول" (3/37): ((فأما المتواتر فعلى
ضربين: ضربٌ يُعلم بخبره باضطرارٍ مِن غير نظرٍ ولا استدلالٍ، لِمَا يقارنه
مِن الدلائل الموجبة للعلم بصحته. وضربٌ مِنه لا يوجب العلم
)). اهـ ثم قال عن القسم الثاني وهو المشهور (3/48): ((القسم الثاني مِن أقسام المتواتر: وهو ما يُعلم صحته بالاستدلال)). اهـ ثم قال بعدها عن هذه الأخبار: ((فنعلم بتأمُّلنا حالَها أنها صحيحةٌ، ولا توجب العلم الضروري)).
اهـ وقد بنى نتيجته هذه على مقدمتين. الأولى: أنَّ الأمة لمَّا تلقَّت
الخبر بالقبول واتفقت على العمل به، صار هذا إجماعاً. فتقوَّى الخبرُ بذلك
الإجماعِ، وارتفع عن رتبة الظن إلى العلم. فقال (2/360): ((ألاَ ترى أن قوله عليه السلام {لا وصية لوارثٍ} هو مِن أخبار الآحاد، وقد أجاز أصحابُنا نَسْخَ القرآن به لتلقِّي الناس إياه بالقبول واتفاقهم على استعمال حُكمه)). اهـ وقال (3/67): ((خبر الواحد إذا ساعده الإجماع، كان دليلاً على صحته وموجباً للعلم بمخبره)).
اهـ فقد صرَّح أن اتفاق الأئمة إنما كان على العمل بمقتضى الخبر، وأن هذا
الإجماع هو الذي ساعدَ خبرَ الواحد على إفادته للعلم النظري. وأما المقدمة
الثانية: فهي أن الأئمة لولا أنهم قد تيقَّنوا صحة هذه الأخبار، لَمَا
اتفقوا على قبولها والعمل بها. وهذا ما قاله مِن قبلُ أبو هاشم الجبائي
وغيرُه مِن المعتزلة كما ذكر أبو الحسين البصري في كتابه، لأنهم يرون أن
الاتفاق على العمل بالخبر يوجب القطع بصدقه والعلم بصحته.


ومِن القائلين بهذا أيضاً أبو إسحاق الإسفراييني [ت 418 هـ] فقد قال فيما نقله عنه الجويني في كتابه "البرهان" (1/223): ((وذكر
الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله قسماً آخر بين التواتر والمنقول آحاداً،
وسمَّاه المستفيض. وزعم أنه يقتضي العلم نظراً، والمتواتر يقتضيه ضرورةً.
ومَثَّلَ المستفيضَ بما يتفق عليه أئمة الحديث
)). اهـ وقال فيما نقله عنه الزركشي في نكته على ابن الصلاح (1/280): ((الأخبارُ
التي في الصحيحين مقطوعٌ بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها
بحالٍ. وإن حصل في ذلك اختلافٌ، ففي طرقها أو رواتها. فمَن خالف حُكمُه
خبراً مِنها وليس له تأويلٌ سائغٌ للخبر، نقضنا حُكمه. لأن هذه الأخبار
تلقتها الأمة بالقبول
)). اهـ وقد أغربَ أبو إسحاق في رأيه، إذ حَصَرَ التلقِّي بالقبول في ما يتفق عليه المحدثون وليس الفقهاء.


ومِن هذا الفريق أيضاً أبو منصور عبد القاهر البغدادي [ت 429 هـ] فقال في كتابه "أصول الدين" (ص12): ((والأخبار عندنا على ثلاثة أقسام: تواترٌ، وآحادٌ، ومتوسطٌ بينهما مستفيضٌ جارٍ مجرى التواتر في بعض أحكامه)). اهـ ثم قال: ((وأما
المتوسط بين التواتر والآحاد: فإنه شارك التواتر في إيجابه للعلم والعمل،
ويفارقه مِن حيث أن العلم الواقع عنه يكون مكتسباً، والعلم الواقع عن
التواتر ضروري غير مكتسب
)). اهـ


ومِن هذا الفريق الدبوسي [ت 430 هـ] فقال في كتابه "تقويم الأدلة" (ص212): ((وأما المشهور فَحَدُّهُ: ما كان وسطه وآخره على حد التواتر، وأوَّلُه على حد خبر الواحد. وقد اختلف العلماء في حُكمه)). اهـ ونقل رأي الجصاص وعيسى بن أبان، ثم قال: ((ويسمَّى العلمُ عن خبر المتواتر علمَ يقينٍ، وعن الخبر المشتهر علمَ طمأنينةٍ)). اهـ ثم قال: ((إلاَّ أنَّا أبقينا مع هذا شبهةَ الآحادِ الثابتةَ في الطرف الأول، فلم نُكَفِّر جاحده. وحططنا رتبته عن رتبة التواتر)). اهـ


ومِن
هذا الفريق القاضي أبو يعلى الفراء [ت 458 هـ] فقد ذَكَرَ في كتابه
"العدة" (ص900) أنَّ جماعةً مِن أصحابهم قالوا: خبر الواحد إن كان شرعاً،
أوجب العلم. فقال أبو يعلى: ((وهذا عندي محمولٌ على
وجهٍ صحيحٍ مِن كلام أحمد رحمه الله، وأنه يوجب العلم مِن طريق الاستدلال
لا مِن جهة الضرورة. والاستدلال يوجب العلم مِن أربعة أوجه. أحدها: أن
تتلقَّاه الأمة بالقبول. فَدَلَّ ذلك على أنه حقٌّ، لأن الأمة لا تجتمع على
الخطأ. ولأن قبول الأمة يدلُّ على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته، لأن عادة
خبر الواحد الذي لم تقم الحجة به ألاَّ تجتمع الأمة على قبوله
)). اهـ ثم ذكر الوجوه الأخرى، وقال: ((والعلم الواقع عن ذلك كلِّه مكتسبٌ، لأنه واقعٌ عن نظرٍ واستدلالٍ)). اهـ


ومنهم
أيضاً أبو الوليد الباجي المالكي [ت 474 هـ] فقد جعل المستفيضَ قسماً مِن
الآحاد وأوجب له علم الاستدلال. فقال في كتابه "إحكام الفصول" (2/335) إنَّ
أخبار الآحاد ((تنقسم إلى قسمين: قسمٌ يقع به العلم،
وقسمٌ لا يقع العلم به. فأمَّا ما يقع العلم بصحته مِن أخبار الآحاد: فإن
العلم يقع به بدليلٍ. وهو على ستة أضربٍ
)). اهـ ثم قال: ((والسادس: خبر الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول)). اهـ


ومنهم أبو إسحاق الشيرازي [ت 476 هـ] فقد ذكر في كتابه "اللمع" (ص153) أن أخبار الآحاد على ضربين: ((أحدهما يوجب العلم، وهو على أوجهٍ)). اهـ ثم قال: ((ومِنها
خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول، فيُقطع بصدقه. سواءٌ عمل الكل به أو
عمل به البعض وتأوَّلَه البعض. فهذه الأخبار توجب العلم، ويقع العلم بها
استدلالاً
)). اهـ وقد نَقَلَه بحروفه تلميذُه الخطيب البغدادي [ت 463 هـ] في كتابه "الفقيه والمتفقه" (1/278).


ومِنهم البزدوي [ت 482 هـ] فقد قال في أصوله (كشف الأسرار 2/362): ((المشهور ما كان مِن الآحاد في الأصل ثم انتشر، فصار ينقله قومٌ لا يُتوهَّم تواطؤهم على الكذب)). اهـ ثم قال: ((فصار بشهادتهم وتصديقهم بمنزلة المتواتر)). اهـ ثم فرَّق بينه وبين المتواتر فقال: ((العلم
بالمتواتر كان لصدقٍ في نفسه، فصار يقيناً. والعلم بالمشهور لغفلةٍ عن
ابتدائه وسكونٍ إلى حاله، فسُمِّي علم طمأنينةٍ. والأول علم اليقين
)). اهـ


ومِنهم السرخسي [ت 483 هـ] فقد قال في أصوله (1/291) عن الخبر المشهور: ((فأمَّا النوع الثاني: فهو مشهورٌ وليس بمتواترٍ، وهو الصحيح عندنا)). اهـ ثم فرَّق بينه وبين المتواتر فقال إنه يثبت به ((علم
طمأنينة القلب لا علم اليقين: وهذا لأنه وإن تواتر نَقْلُه عن الفريق
الثاني والثالث، فقد بقي فيه شبهة تَوَهُّمِ الكذب عادةً باعتبار الأصل.
فإن رواته عددٌ يسيرٌ، وعلمُ اليقين إنما يثبت إذا اتصل بمن هو معصومٌ عن
الكذب على وجهٍ لا يبقى فيه شبهة الانفصال. وقد بقي هنا شبهة الانفصال
باعتبار الأصل، فيمنع ثبوت علم اليقين به
)). اهـ


ومِنهم أبو المظفر السمعاني [ت 489 هـ] فقد اعتمدَ ما اعتمده أبو إسحاق الشيرازي مِن قبلُ، فقال في كتابه "قواطع الأدلة" (2/255): ((خبر الواحد قد يوجب العلم في مواضع)). اهـ ثم قال: ((ومِنها
خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول وعملوا به لأجله، فيُقطع بصدقه.
وسواءٌ في ذلك عمل الكل به، أو عمل البعض وتأوَّلَه البعض
)). اهـ


ومِنهم أبو الخطاب الكلوذاني [ت 510 هـ] فقد قال في كتابه "التمهيد" (3/83): ((فأما خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على حُكمه وتلقته بالقبول: فاختلفت الناس في ذلك. فظاهر كلام أصحابنا: أنه يقع به العلم)). اهـ ثم قال: ((ومِن الناس مَن قال: لا يقع به العلم)). اهـ ثم ذَهَبَ إلى ما ذَهَبَ إليه الجصاص ومِن قبله الجبائي المعتزلي أن التلقي بالقبول إجماعٌ على الصحة، فقال: ((إذا أجمعوا على تلقيه بالقبول، فقد أجمعوا على صحته)).
اهـ والعلم الذي يقصده الكلوذاني هو العلم المكتسب وليس اليقيني، فقد
ذكرنا قبلُ أنه لم يوجِب للمتواتر علمَ الضرورة بل علم النظر والاستدلال،
فهو في ما دون التواتر أَوْلَى.


ومِنهم
ابن العربي المالكي [ت 543 هـ] فقد وافَق الباجي وغيره مِن أهل المذهب،
وجَعَل المستفيضَ قسماً مِن الآحاد. فقال في كتابه "المحصول" (ص115): ((قال علماؤنا: خبر الواحد على ضربين. أحدهما: يوجب العلم والعمل كالمتواتر)). اهـ ثم مَثَّلَ له وقال: ((والخامس: خبر واحدٍ تلقَّته الأمة بالقبول، فإمَّا قالوا بظاهره وإمَّا تأوَّلوه، ولم يكن منهم نكيرٌ عليه)). اهـ


ومِنهم
ابن قدامة المقدسي [ت 620 هـ] فقد فرَّق بين المتواتر الذي يفيد العلمَ
بمجرَّده، وبين الآحاد التي قد تفيد العلمَ بدليلٍ. فقال في كتابه "روضة
الناظر" (ص48): ((فالمتواتر يفيد العلم ويجب تصديقه،
وإن لم يدلَّ عليه دليلٌ آخر. وليس في الأخبار ما يُعلم صدقه بمجرَّده إلا
المتواتر، وما عداه إنما يُعلم صدقه بدليلٍ آخر يدلُّ عليه سوى نفسِ الخبر
)). اهـ ويقصد بقوله ((وما عداه)) أي أخبار الآحاد، كما صرَّح بذلك فقال (ص52): ((أخبار الآحاد وهي ما عدا المتواتر)). اهـ


ومِنهم
أيضاً أبو البركات النسفي [ت 710 هـ] في كتابه "كشف الأسرار" (2/12)،
وعلاء الدين البخاري [ت 730 هـ] في كتابه "كشف الأسرار" (2/368)، والشوكاني
[ت 1250 هـ] في كتابه "إرشاد الفحول" (ص237، ص255).


الفريق الثاني:
ويرى أن اتفاق الأئمة على العمل بالخبر إن كان جزماً منهم بصحته وقطعاً
بصدقه، فهو يوجب العلم النظري. أمَّا إن كان اتفاقهم على العمل فقط، فالخبر
حينئذٍ لا يفيد إلاَّ الظن شأنه شأن غيره مِن الآحاد. فهُم على التفصيل في
المسألة.


وأَقْدَمُ
مَن وقفتُ على رأيه في هذا الفريق هو أبو بكر بن فُورك [ت 406 هـ] فقد قال
في كتابه "مشكل الحديث" (ص18) عن أقسام أخبار الآحاد: ((فمِنها
ما نقول إنها تؤدي إلى علمٍ مكتسبٍ واعتقادٍ على طريق القطع، لا على الوجه
الذي يُضطر السامعُ فيه إلى العلم بما يسمعه مِن أخبار التواتر. ولكنه على
الوجه الذي نقول: إنَّ ما أجمعت عليه الأمة مقطوعٌ به معتقَدٌ صحته،
ويُعلم ذلك بنوعٍ مِن النظر والاستدلال
)). اهـ ثم قال: ((فهذا
النوع يؤدي إلى علمٍ مكتسبٍ واعتقادٍ لصحته، نحو الاعتقاد لما ذكرناه مِن
أخبار السنن وما جرى مجراه مِمَّا لم يبلغ درجة التواتر في القطع به ووقوعِ
العلم الضروري للسامع به. وارتفعت درجته عن درجة أخبار الآحاد، وهي القسمة
الوسطى مِن أقسام الأخبار، لأنها: تواتر، ومستفيض، وآحاد
)). اهـ وقال فيما نقله عنه الجويني في كتابه "البرهان" (1/223): ((وقال
الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله: "الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول
محكومٌ بصدقه". وفصَّل ذلك في بعض مصنفاته، فقال: "إن اتفقوا على العمل به،
لم يُقطع بصدقه وحُمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد. وإن
تلقوه بالقبول قولاً وقطعاً، حُكم بصدقه"
)). اهـ


ومِن هذا الفريق أيضاً المازري [ت 536 هـ] فقد قال في كتابه "إيضاح المحصول" (ص419) بعد أن ذكر اختلاف العلماء في الخبر المستفيض: ((ولكن
الإنصاف التفصيل في تصديق الخبر المروي: فإن لاح مِن سائر العلماء مخايل
القطع والتصميم وأنهم أسندوا التصديق إلى اليقين، فلا وجه للتشكيك. ويُحمل
على أنهم علموا صحة الحديث مِن طريقٍ خفيت علينا، إمَّا أخبار نُقلت
تواتراً واندرست – إن كان الخبر مِمَّا يصحُّ اندراسه – أو مِن غير هذه
الطريق. وإن لاح منهم التصديق مستنداً إلى تحسين الظن بالعدول وبداراً إلى
القبول مِن جملة السنن وانقياداً إليها، فلا وجه للقطع
)). اهـ


ومِنهم الأسمندي [ت 552 هـ] فقد قال في كتابه "بذل النظر" (ص383): ((إذا
أخبر الواحدُ خبراً وأجمعت الأمة على العمل بموجبه وحكمت بصحته، فإنه
يدلُّ على أن النبي عليه السلام قال ذلك. لأنه لا يجوز أن تجتمع الأمة على
الخطأ. وأما إن عُمل بموجبه ولم يُحكم بصحته، ذهب جماعةٌ مِن المتكلمين أنه
يُقطع على أن النبي عليه السلام قد قال ذلك، وهو قول الشيخ أبي الحسن
الكرخي رحمه الله. وقال غيرهم: إنه لا يُقطع على ذلك
)). اهـ

ومِنهم الزركشي [ت 794 هـ] فقد عَرَض في كتابه "البحر المحيط" (4/246) للخلاف في المسألة، ثم قال: ((أمَّا
إجماعهم على العمل على وفق الخبر، فلا يقتضي صحته فضلاً عن القطع به، فقد
يعملون على وفقه بغيره. جزم به النووي في "الروضة" في كتاب القضاء
)). اهـ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://minhaj.ahlamontada.com
منهاج السنة
لا اله الا الله محمد رسول الله
لا اله الا الله محمد رسول الله
منهاج السنة


خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Vitiligo-ae30eb86b8خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Iraqiaabc6667cb59
عدد المساهمات : 897
تاريخ التسجيل : 27/10/2012

خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Empty
مُساهمةموضوع: رد: خبر الواحد المتلقَّى بالقبول    خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 06, 2012 8:02 am

القائلون بإفادته للظن
أَقْدَمُ مَن وقفتُ
عليه مِن القائلين بهذا الرأي هو عيسى بن أبان الحنفي [ت 221 هـ] فقد
حَكَمَ للخبر المتواتر باليقين، وأمَّا ما عدا ذلك مِمَّا لم يبلغ درجة
التواتر فهو عنده محتملٌ للصدق والكذب. يقول عيسى في كتابه "الرد على بشر
المريسي" فيما نقله عنه الجصاص في أصوله (3/35 فما بعد): ((الأخبار
على ثلاثة أقسام: قسمٌ منها يحيط العلمُ بصحته وحقيقة مخبره، وقسمٌ منها
يحيط العلمُ بكذب قائله والمخبر به، وقسمٌ يجوز فيه الصدق والكذب. فأمَّا
القسم الأول: فما وَقَعَ العلمُ بمخبره لوروده مِن جهة التواتر، وامتناعِ
جواز التواطؤ والاتفاق على مخبره
)). اهـ ثم قال عن القسم الثالث: ((فأمَّا
ما يجوز فيه الصدق والكذب: فخبر الواحد والجماعة التي لا يتواتر بها
الخبرُ ويجوز عليها التواطؤ، فيجوز في خبرهم الصدق والكذب. فمَن كان ظاهره
العدالة ونَفْي التهمة، فخبره مقبولٌ في الأحكام على شرائط سنذكرها، مِن
غير شهادةٍ مِنَّا بصدقه ولا القطع على عينه. ومَن كان ظاهره الفسق والتهمة
بالكذب، فخبره غير مقبول
)). اهـ


ومِن القائلين بهذا أيضاً القاضي أبو بكر الباقلاني [ت 403 هـ] فقد قال في كتابه "التقريب والإرشاد" (3/55): ((إن النقل ضربان: تواترٌ يوجب العلمَ ويقطع العذر، وآحادٌ لا يوجب العلم بضرورةٍ ولا دليلٍ)).
اهـ وعنده أن التلقِّي بالقبول لا يُخرج الخبرَ عن كونه آحادياً، بل يبقى
على أصله في عدم إفادة العلم. فيقول (التقريب والإرشاد 3/180) بأنَّ ((إجماع
الأمة على العمل به لا يدل على صدق راويه وصحته، كما أن إجماعها على العمل
بالشهادة التي ظاهرها العدالة - لموضع التعبُّد بذلك - لا يدل على صدقها
وصحتها
)). اهـ وذَكَرَ هذا الرأيَ عنه الجوينيُّ في كتابه "البرهان" (1/223) فنَقَلَ عن الباقلاني أنَّ هذا الخبر ((لا
يُحكم بصدقه وإن تلقوه بالقبول قولاً وقطعاً، فإن تصحيح الأئمة للخبر
مُجرىً على حُكم الظاهر. فإذا استجمع خبرٌ مِن ظاهره عدالةَ الراوي وثبوتَ
الثقة به وغيرَها مِمَّا يرعاه المحدِّثون، فإنهم يطلقون فيه الصحة. ولا
وجه إذاً للقطع والحالة هذه
)). اهـ قال الجويني: ((ثم
قيل للقاضي: لو رفعوا هذا الظنَّ وباحوا بالصدق، فماذا تقول؟ فقال مجيباً:
لا يُتصوَّر هذا! فإنهم لا يتوصَّلون إلى العلم بصدقه. ولو قطعوا، لكانوا
مجازفين. وأهل الإجماع لا يجتمعون على باطلٍ
)). اهـ


ومِن القائلين بهذا
الرأي أيضاً إمام الحرمين الجويني [ت 478 هـ] فقد ردَّ على أبي إسحاق
الإسفراييني كلامَه أن الخبر المستفيض يقتضي العلم النظري، فقال في كتابه
"البرهان" (1/584): ((وهذا الذي ذكره مردودٌ عليه:
فإنَّ العُرف واطِّراد الاعتياد لا يقتضي بالصدق فيه، ولا نرى وجهاً في
النظر يؤدي إلى القطع بالصدق. نعم، ما ذكره مِمَّا يغلب على الظن الصدق
فيه. فأمَّا أن يُفضي إلى العلم به، فلا
)). اهـ


ومِن القائلين بهذا الرأي أيضاً الغزالي [ت 505 هـ] فقد قال في كتابه "المستصفى" (2/166): ((فإن
قيل: "خبر الواحد الذي عمل به الأمة هل يجب تصديقه؟" قلنا: إن عملوا على
وفقه، فلعلَّهم عملوا عن دليلٍ آخر. وإن عملوا به أيضاً، فقد أُمروا بالعمل
بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه. فلا يلزم الحُكم بصدقه. فإن قيل: "لو
قُدِّر الراوي كاذباً، لكان عمل الأمة بالباطل! وهو خطأ، ولا يجوز ذلك على
الأمة". قلنا: الأمة ما تعبَّدوا إلاَّ بالعمل بخبرٍ يغلب على الظن
صِدْقُهم فيه، وقد غلب على ظنهم. كالقاضي إذا قضى بشهادة عدلين، فلا يكون
مخطئاً وإن كان الشاهد كاذباً. بل يكون محقاً، لأنه لم يؤمر إلاَّ به
)). اهـ وقال في كتابه "المنخول" (1/335): ((وما
ذكروه مِن انعقاد الإجماع على العمل وكونه دليلاً على صدق خبر الواحد: ليس
كذلك. فإن قيل: "لا تجتمع الأمة على الضلالة". قلنا: ما اجتمعوا على صدقه،
بل اجتمعوا على العمل به
)). اهـ وردَّ الغزاليُّ على القائلين إن الخبر يفيد العلم الظاهر فقال (2/179): ((قال بعضهم: "يورث العلم الظاهر". والعلمُ ليس له ظاهرٌ وباطنٌ! وإنما هو الظن)). اهـ


ومِن القائلين بهذا الرأي أيضاً إلكيا الطبري [ت 504 هـ]. قال الزركشي في كتابه "البحر المحيط" (4/244): ((وذهب
القاضي أبو بكر إلى أنه لا يدل على القطع بصدقه وإن تلقوه بالقبول قولاً
ونطقاً، وقصاراه غلبة الظن. واختاره إمام الحرمين والغزالي وإلكيا الطبري
وغيرهم
)). اهـ ثم نَقَل بعدُ قولَ إلكيا فقال: ((وقال
إلكيا الطبري: فأمَّا إذا أجمعت الأمة على العمل بخبر الواحد لأجله، فهذا
هو المسمَّى مشهوراً عند الفقهاء. وهو الذي يكون وسطُه وآخرُه على حد
التواتر، وأَوَّلُهُ منقولٌ عن الواحد. ولا شكَّ أن ذلك لا يوجب العلم
ضرورةً
)). اهـ


ومِن القائلين بهذا أيضاً أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي [ت 513 هـ] فقال في كتابه "الواضح" (4/403): ((خبر الواحد لا يوجب العلمَ لا الضروري ولا المكتسب)). اهـ والخبر عنده مهما اعتضد بما يقوِّيه فلا يُخرجه مِن حيز الظن، فقال بعدها: ((ولا
نجد في خبر الواحد – وإن بلغ الغاية – إلاَّ ترجيح صدقه على كذبه، مع
تجويز الكذب عليه. ولا يتأثر في النفس مِن تغليب أحد المجوَّزين إلاَّ
الظن، فأمَّا القطع والعلم فلا وجه له
)). اهـ


ومِن القائلين بهذا أيضاً ابن برهان [ت 518 هـ] فقال في كتابه "الوصول إلى الأصول" (2/172): ((خبر الواحد لا يفيد العلم، خلافاً لبعض أصحاب الحديث فإنهم زعموا أن ما رواه مسلمٌ والبخاري مقطوعٌ بصحته)). اهـ ثم قال: ((ولا
عمدة للخصم إلاَّ أن الأمة أجمعت على تلقي الكتابين بالقبول واتفقوا على
العمل بهما. وهذا لا يدل على أنهما مقطوعٌ بصحتهما: فإن الأمة إنما عملت
لاعتقادها الأمانة والثقة في الرواية. وليس كل ما يوجب العمل به كان
مقطوعاً بصحته
)). اهـ وقد وافقَ النوويُّ ابنَ برهان في هذه المسألة، واعتضد برأيه في ردِّه على ابن الصلاح كما هو معلوم.

ومِن القائلين به
أيضاً الفخر الرازي [ت 606 هـ] في كتابه "المحصول" (4/287)، والآمدي [ت
631 هـ] في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" (2/54)، والعز بن عبد السلام
[ت 660 هـ] فيما نقله عنه الزركشي في نكته على ابن الصلاح (1/277)، وتاج
الدين ابن الفركاح [ت 690 هـ] في كتابه "شرح الورقات" (ص293)، ونجم الدين
الطوفي [ت 716 هـ] في كتابه "شرح مختصر الروضة" (2/109)، وابن جزي الغرناطي
[ت 741 هـ] في كتابه "تقريب الوصول" (ص121)، والشاطبي [ت 790 هـ] في كتابه
"الموافقات" (4/294)، والكمال ابن الهمام [ت 861 هـ] في كتابه "التحرير"
(تيسير التحرير 3/38) وكتابه "فتح القدير" (5/243 ومواضع أُخَر)، وابن عبد
الشكور البهاري [ت 1119 هـ] في كتابه "مُسَلَّم الثبوت" (فواتح الرحموت
2/136) ولم ننقل أقوالهم طلباً للاختصار.




العلم الظاهر هو الظن القوي
عند تأمُّل أقوالِ
العلماء في مسألة العلم المبني على النظر والاستدلال، وهو الذي يُسمَّى
أيضاً بالعلم النظري وعلم الظاهر وعلم الطمأنينة، نجد أن مدلول كلامهم يشير
إلى درجة فوق الظن وتحت اليقين وهي تعني غلبة الظن أو الظن القوي. وقد فطن
إلى هذا القاضي عبد الوهاب البغدادي [ت 422 هـ] فقد حكى الاختلاف في خبر
الواحد هل يفيد العلم الظاهر أم لا؟ ثم قال فيما نقله عنه الزركشي في كتابه
"البحر المحيط" (4/264): ((إنه خلافٌ لفظيٌّ، لأن مرادهم أنه يوجب غلبة الظن. فصار الخلاف في أنه هل يسمَّى علماً أم لا)). اهـ وقال الجويني في كتابه "البرهان" (ص584) رداً على أبي إسحاق الإسفراييني لِذِكْرِهِ العلم النظري: ((ما ذَكَرَه مِمَّا يغلب على الظن الصدق فيه)). اهـ وقال الغزالي في كتابه "المستصفى" (2/179): ((قال بعضهم: "يورث العلم الظاهر". والعلم ليس له ظاهرٌ وباطنٌ، وإنما هو الظن)). اهـ


وقال المازري في كتابه "إيضاح المحصول" (ص444): ((مراتب
الظنون تختلف في القوة والضعف، حتى يكون منها ما يكاد يلحق بقوته العلمَ
الملزم به. ولكن النفس مع هذا ملتفتةٌ إلى التجويز والتشكيك. فمهما رأيتَ
في نفسك في آحاد الصور مِن دَعْوَى مُدَّعٍ أو خبرِ مخبرٍ ما يُرتاب مِنه
بصحة ما قال ابنُ خويزمنداد: فاعلم أن ذلك ظنٌّ بَلَغَ في قوته أعلى مراتب
الظنون. فلا تغلط فيه فتختلط عليك الحقائق!
)). اهـ ثم قال (ص445): ((وأمَّا
مَن حَكَيْنَا عنه أن خبر الواحد يثمر العلم الظاهر دون الباطن: فإن هؤلاء
الظاهر عندهم أنهم يشيرون إلى أنه يثمر الظن. وإنما عبَّروا عن ذلك بهذه
العبارة إشعاراً منهم بقوة الظن وتأكُّده ومزاحمته للعلم
)). اهـ وهو
ما انتبه إليه مِن المتأخرين ابن عبد الشكور البهاري في كتابه "مُسَلَّم
الثبوت" (فواتح الرحموت 2/136) فقال في الخبر المستفيض: ((ويوجب ظناً كأنه اليقين)). اهـ فعلَّق عليه الشارحُ اللكنويُّ [ت 1225 هـ] فقال: ((ويسمَّى هذا الظنُّ علمَ الطمأنينة)). اهـ


وهذا معناه موجودٌ في تفريق الحنفية بين علم اليقين وعلم الظاهر: فقد مَرَّ عليك قول أبي الحسن الكرخي في أصوله: ((الأصل أنه يُفَرَّق بين العلم إذا ثبت ظاهراً، وبينه إذا ثبت يقيناً)). اهـ وقد علَّق عليه نجمُ الدين النسفي [ت 537 هـ] فقال في ذات الموضع (ملحقاً بتأسيس النظر ص116): ((مِن مسائله: أنَّ ما عُلم يقيناً، يجب العمل به واعتقاده. وما ثبت ظاهراً، وجب العمل به ولم يجب اعتقاده)). اهـ قلتُ: والذي لا يجب اعتقاده هو المحتمل الذي يجوز عليه الصدق والكذب كما قال عيسى بن أبان.


الجمهور على أن المستفيض لا يوجب علم اليقين
كما يتبيَّن لك، فإن
مذهب جماهير الأصوليين هو أن خبر الواحد المتلقَّى بالقبول لا يوجب العلم
الضروري اليقيني الذي للمتواتر، وإنما يوجب نوعاً مِن العلم لا يبلغ درجة
اليقين. وقد أسماه بعضهم العلم الظاهر الواقع عن النظر والاستدلال، وقال
غيرهم إنهم يعنون بذلك غلبةَ الظنِّ والخلافُ لفظيٌّ.


وهذا
يجعل ما قرَّره ابن تيمية في هذه المسألة محلَّ نظرٍ، وقد ذكرنا قوله
آنفاً. وننقل هنا تكملة كلامه، إذ قال في كتابه "جواب الاعتراضات المصرية"
(ص43) إن خبر الواحد المتلقَّى بالقبول ((يفيد العلم
اليقيني أيضاً عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم مِن الأولين
والآخرين. أما السلف، فلم يكن بينهم في ذلك نزاع. وأما الخلف، فهذا مذهب
الفقهاء الكبار مِن أصحاب الأئمة الأربعة. والمسألة منقولةٌ في كتب الحنفية
والمالكية والشافعية والحنبلية: مثل السرخسي، ومثل الشيخ أبي حامد وأبي
الطيب وأبي إسحاق وغيرهم، ومثل القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وابن الزاغوني
وغيرهم، ومثل القاضي عبد الوهاب وغيره. وكذلك أكثر المتكلمين مِن المعتزلة
والأشعرية: مثل أبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وغيرهما. وإنما
نازع في ذلك طائفةٌ كابن الباقلاني، وتَبِعَهُ مِثلُ أبي المعالي والغزالي
وابن عقيل وابن الجوزي ونحوهم
)). اهـ


فقد
تبيَّن لنا أن القائلين بأن هذا النوع مِن الأخبار يفيد العلمَ اليقينيَّ
إنما هم بعض علماء المعتزلة ووافقهم القرافي، ناهيك عن مذهب ابن خويزمنداد
وابن حزم في الآحاد. ولذلك قال العز بن عبد السلام [ت 660 هـ] في ردِّه على
ابن الصلاح فيما نقله عنه الزركشي في نكته (1/277): ((وهو مبنيٌّ على قول المعتزلة: "إن الأمة إذا عملت بحديثٍ، اقتضى ذلك القطعَ بصحته". وهو مذهبٌ رديءٌ)).
اهـ وأمَّا أكثر العلماء الذين ذكرهم ابن تيمية، فهُم مِن القائلين بالعلم
النظري وليس العلم اليقيني كما سلف بيانه. ولذلك فرَّقوا بين حُكم مُنكِر
المتواتر وبين حُكم مُنكِر المستفيض، فكفَّروا الأوَّل دون الثاني.

هذا ما وقفتُ عليه في
هذه المسألة، ولست أدَّعي أني أحطتُ بها وإنما نقلتُ ما وَقَعَ تحت يدي
بحسب الوسع والطاقة، فإن عُثر على أن به خطأً أو زللاً فمِنِّي ومِن
الشيطان.

والله سبحانه أعلى وأعلم.
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=1840274#post1840274
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://minhaj.ahlamontada.com
منهاج السنة
لا اله الا الله محمد رسول الله
لا اله الا الله محمد رسول الله
منهاج السنة


خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Vitiligo-ae30eb86b8خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Iraqiaabc6667cb59
عدد المساهمات : 897
تاريخ التسجيل : 27/10/2012

خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Empty
مُساهمةموضوع: رد: خبر الواحد المتلقَّى بالقبول    خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 06, 2012 8:02 am

تعليقات وتفريعات

تحقيقُ رَأْيِ عيسى بن أبان
تتلمذ عيسى بن أبان على محمد بن الحسن، وتوفي قبل الإمام
أحمد بعشرين سنة، ولم يصل لنا مِن مصنفاته شيء إلا ما نقله العلماء عنه في
كتبهم. وقد اعتمدتُ في تحقيق رأيه على ما نقله عنه أبو بكر الجصاص كما
سَبَقَ وسيأتي. إلاَّ أني وجدتُ
علاء الدين البخاري في القرن الثامن الهجري يقول في كتابه "كشف الأسرار" (2/368) عن الخبر المشهور: ((وذهبَ عيسى بن أبان مِن أصحابنا إلى أنه يوجب علم طمأنينةٍ لا علم يقينٍ، فكان دون المتواتر وفوق الآحاد)).
اهـ قلتُ: والذي نُقِلَ عن عيسى بن أبان ليس فيه تقسيمُهم الثلاثي للأخبار
بإضافة المشهور، بل هو على القسمة المعهودة بأن الآحاد هو كل ما عدا
المتواتر، وإنما التقسيم الثلاثي عنده هو مِن حيث الصدق والكذب قطعاً
واحتمالاً. ولمَّا تكلَّم عن مراتب الآحاد وأن بعضها أقوى مِن بعض، جَعَلَ
لها جميعاً نفس الحُكم وهو أنها محتملةٌ للصدق والكذب. ومع أنه يرى قبول
أخبار العدول والاحتجاج بها، إلاَّ أنه لم يوجب لها الصدق ولا القطع
بالصحَّة. هذا هو المنقول عنه،
ولم ينقلوا عنه أنه حَكَمَ للأخبار المشهورة أنها توجب علم الطمأنينة.

والذي جَعَلَ علاءَ الدين البخاريَّ ينسب هذا الرأيَ إلى
عيسى بن أبان أنه وجد أبا بكر الجصاص يقول في كتابه "الفصول" (3/48) عن
الأخبار المتلقاة بالقبول: ((وقد حكينا عن عيسى بن أبان
رحمه الله في صدر هذا الباب: أن الخبر المتواتر عنده هو الذي يوجب علم
الضرورة، وأنه لم يجعل ما ليست هذه منزلتُه مِن خبر التواتر
)). اهـ وقد ذَكَرَه أيضاً السرخسي في أصوله (1/291) فقال: ((وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول: لا يكون المتواتر إلا ما يوجب العلم ضرورياً)).
اهـ فَظَنَّ علاءُ الدين، بناءً على أن المتواتر عند عيسى يوجب العلم
الضروري، أن المشهور إذن يوجب عنده علم الطمأنينة الذي هو عندهم أقل مِن
الضروري! مِن أجل ذلك، كان لزاماً أن نأتي بكلام عيسى بن أبان كما نقله عنه
الجصاص ليتبيَّن لنا تحقيق رأيه.


يقول الجصاص في بداية نقله (الفصول: باب ذكر وجوه الأخبار ومراتبها وأحكامها 3/ 35 فما بعد): ((وقد ذَكَرَ أبو موسى عيسى بنُ أبان رحمه الله جملةً في ترتيب الأخبار وأحكامها في كتابه "الرد على بشر المريسي".
وأنا أذكر معانيها مختصرةً دون سياقة ألفاظها، فإنه ذكرها في مواضع مِن
كتابه. فكرهتُ الإطالة بذكرها على نسقها، واقتصرتُ منها على موضع الحاجة في
معرفة مذهبه فيها
)). اهـ قلتُ: ويؤخذ مِن كلام الجصاص هذا أمور:

- أنه ينقل أقوال عيسى مباشرةً مِن كتابه هذا
- أن عيسى توسَّع في بيان مذهبه في الأخبار وأقسامها عنده في مواضع عدَّة مِن هذا الكتاب
- أن اعتماد الجصاص على كتاب "الرد على بشر المريسي" معناه
إمَّا أنه لم يقف لعيسى على كُتُبٍ أخرى تكلَّم فيها عن تقسيم الأخبار،
وإما أنه وقف عليها ولكن وجدها مجملةً بعكس هذا الكتاب

- أن الجصاص ساق كلام عيسى مختصراً ولم يلتزم بحرفية ألفاظه.

ثم يُكمل فيقول: ((ذَكَرَ أن الأخبار
على ثلاثة أقسام: قسمٌ فيها يحيط العلم بصحته وحقيقة مخبره، وقسمٌ مِنها
يحيط العلم بكذب قائله والمخبر به، وقسمٌ يجوز فيه الصدق والكذب
)).
اهـ قلتُ: ويؤخذ منه أنَّ الذي وَرَدَ عن عيسى بن أبان هو هذه القِسمة
وليست القِسمة التي عليها الحنفية وفيها إضافة رتبةٍ بين التواتر والآحاد.
ثم يُكمل فيقول: ((فأمَّا القسم الأول: فما وقع العلم
بمخبره لوروده مِن جهة التواتر وامتناع جواز التواطؤ والاتفاق على مخبره:
كعلمنا بأن في الدنيا مكة والمدينة وخراسان، وأن محمداً النبي عليه السلام
دعا الناس إلى الله تعالى وجاء بالقرآن وذَكَرَ أن الله تعالى أنزله عليه
وأَمْره إيانا بالصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت ونحو ذلك. قال
عيسى رحمه الله: والعلم بهذه الأشياء علمُ اضطرارٍ وإلزامٍ، لِما ذكرنا مِن
جملة هذه الشرائع رداً على النبي عليه السلام
[الجملة مضطربةٌ، فلعلَّ هناك سقطاً] كأنه سمع النبي عليه السلام يقول ذلك فردَّه عليه، فيكون بذلك كافراً خارجاً عن ملة الإسلام. لأن العلم كان علمَ ضروري ي المطبوع، ولعلَّ الصواب "[color=navy]ضرورةٍ"] كالعلم بالمحسوسات والمشاهدات)). اهـ ثم استطرد قليلاً وقال: ((وذَكَرَ
أنه ليس لِما يوجب العلم مِن هذه الأخبار حدٌّ معلومٌ ولا عدَّةٌ محصورةٌ.
وقال أيضاً: إن العشرة والعشرين قد لا يتوافر بهم الخبر
)). اهـ ثم قال الجصاص رأيه في هذه الجزئية واستأنفَ كلامَ عيسى فقال: ((قال عيسى رحمه الله: لأن الذي يُعمل عليه في ذلك هو ما يقع لنا به مِن العلم الضروري الذي لا مجال للشك معه ولا مساغ للشبهة فيه)). اهـ ثم استطرد في ذكر الأمثلة على الخبر المتواتر.


ويؤخذ مِن كلام عيسى هنا أمور:
- أن الخبر الذي يحيط العلم بصدقه وحقيقة مخبره إنما هو الخبر المتواتر فقط
- أن منكر المتواتر كافرٌ، لأن في ردِّه للمتواتر رداً على النبي صلى الله عليه وسلم
- أن المتواتر يقع به علم الاضطرار والإلزام وهو الذي لا مجال للشك معه ولا مساغ للشبهة فيه.

ثم يُكمل فيقول: ((قال عيسى: وأمَّا الخبر الذي يُعلم كذبه حقيقةً، فكنحو أخبار مسيلمة وأضرابه مِن المتنبئين الكذابين)). اهـ ثم ذكر عدة أمثلةٍ على هذا النوع مِن الأخبار في المحسوسات والمشاهدات، ثم ذَكَرَ القسم الثالث فقال: ((قال: فأمَّا ما يجوز فيه الصدق والكذب: فخبر الواحد والجماعة التي لا يتواتر بها الخبرُ ويجوز عليها التواطؤ، فيجوز في خبرهم الصدق والكذب. فمَن كان ظاهره العدالة ونَفْي التهمة، فخبره مقبولٌ في الأحكام على شرائط سنذكرها، مِن غير شهادةٍ مِنَّا بصدقه ولا القطع على عينه. ومَن كان ظاهره الفسق والتهمة بالكذب، فخبره غير مقبول)). اهـ ويؤخذ مِن كلامه أمور:
- أن الأخبار عند عيسى مِن حيث الورود على ضربين: متواتر، وغير متواتر.
- أن غير المتواتر هو خبر الواحد والجماعة الذين يجوز عليهم التواطؤ
- أن الخبر غير المتواتر محتملٌ للصدق والكذب
- أن أخبار الثقات مقبولةٌ في الأحكام مِن غير شهادةٍ بصدق الراوي ولا القطع بصحة الخبر.

ثم نَقَلَ الجصَّاصُ فيما بعد كلامَ عيسى بن أبان في مُنكِر أخبار الآحاد التي لم تتواتر، فقال (الفصول 3/48): ((وقد قال عيسى في كتابه على المريسي: لا يخلو الحديثُ مِن ثلاثة أوجهٍ: [الأول] يضلُّ تاركه ويأثم ويُشهد عليه بالبدعة والخطأ. وذلك مِثل الرجم، يردُّه قومٌ بقوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}
قالوا: لأنه لم يتواتر به الخبر كما تواتر بالصلاة والصيام. ولا
يُكَفَّرون، لأنهم لم يردُّوا على الله ولا على رسوله. وإنما خالفوا
الناقلين، فأخطأوا في التأويل وعارضوا بظاهر الكتاب.


قال: والوجه الثاني:
مِثل خبر الصرف وخبر المسح على الخفين. يخطئ مخالِفُه ويُخشى عليه الإثم،
ولا يُحكم عليه بالضلال. لأن ابن عباس عارَضَ حديثَ الصرف بخبر أسامة بن
زيد "لا ربا إلا في النسيئة". والخوارج خالفت
الإجماع. وخبر المسح على الخفين رواه جماعةٌ كثيرةٌ عن النبي صلى الله
عليه وسلم، وخالف فيه ابن عباس وعائشة وأبو هريرة. وقالوا: إن المسح كان
قبل نزول المائدة، فأخطأوا ولم يُحكم عليهم بالضلال ويُخشى عليهم المأثم.
وكذلك خبر الشاهد واليمين، لأن القائل به لا يدري هو ثابت الحكم أم لا،
ويردُّ قضاء مَن قضى به لأن ظاهر الآية يردُّه. قال: ومِمَّا يخاف عليه
الإثم ولا يُحكم عليه بالضلال: مَن استحق دماً بالقسامة مع علمهم أن
المخالفين كاذبون في حلفهم وأنه خلاف الكتاب. قال الله تعالى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال تعالى {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وأنكره جماعةٌ مِن السلف، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة خلافُه.


قال عيسى بن أبان رحمه الله: والوجه الثالث:
ما رُوي في الأخبار المختلفة لا نعلم الناسخ منها، واختلفت الأمة في العمل
بها مع احتمال التأويل فيها. كاختلافهم في أقل الحيض وأكثره، وكاختلافهم
في قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}
وقال بعضهم: لا تكون الإخوة أقلَّ مِن ثلاثة. وقال آخرون: اثنان.
وكاختلافهم في مقدار السفر فيه، وما أشبهه. طريقُه اجتهادُ الرأي، ولا يأثم
المخطئ فيه ولا يضل
)). اهـ

وقد نقله السرخسي في أصوله (1/293) مختصراً فقال: ((ثم
ذَكَرَ عيسى رحمه الله أن هذا النوع مِن الأخبار ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسمٌ يُضَلَّل جاحده ولا يُكَفَّر، وذلك نحو خبر الرجم. وقسمٌ لا يُضَلَّل
جاحده ولكن يُخَطَّأ ويُخشى عليه المأثم، وذلك نحو خبر المسح بالخف وخبر
حرمة التفاضل. وقسمٌ لا يُخشى على جاحده المأثم ولكن يُخطَّأ في ذلك، وهو
الأخبار التي اختلف فيها الفقهاء في باب الأحكام
)). اهـ


ويؤخذ مِن كلامه أمور:
- أنه جعل أخبار الآحاد على مراتب مِن حيث القوة
- أنَّ المرتبة الأولى يضلُّ منكرها ولا يُكفَّر، لأنه لم يردَّ على الله ولا رسوله وإنما خالف الناقلين
- أنَّ المرتبة الثانية يأثم منكرها ولا يضلُّ، وهي أدنى مِن سابقتها
- أنَّ المرتبة الثالثة يخطئ منكرها ولا يأثم، وهي الأخبار المختلف فيها.

هذا ما وقفتُ عليه في تحقيق رأي عيسى بن أبان، ومِنه
يتبيَّن أن ما أسماه الحنفية بالخبر المشهور والمستفيض هو عند عيسى أعلى
مراتب الآحاد، ولكن حُكمه عنده هو نفس حكم الآحاد في إفادة الظن وعدم القطع
بالصدق.


والله أعلى وأعلم




التلقي بالقبول بعد زمن التابعين
تفاوتت عبارات الأصوليين في التحديد الزمني لِلَفظ "الأمة"
في مسألة التلقي بالقبول: ففي حين نجد عامة أهل الأصول يُطلقون هذا اللفظ
دون أن يقيِّدوه بعصرٍ، نجد الحنفيةَ قد حدَّدوا زمن التلقِّي بالقبول بعصر
تابعي التابعين. وهم الذين سمَّاهم الجصاص بالسَلَف حين قال
في أصوله (1/175): ((إذا ظَهَرَ في السلف
استعماله والقول به - مع اختلافهم في شرائط قبول الأخبار وتسويغ الاجتهاد
في قبولها وردّها - فلولا أنهم قد علموا صحَّته واستقامته، لَمَا ظهر منهم
الاتفاق على قبوله واستعماله
)). اهـ


وحَدَّدهم الشاشي بالعصرين الثاني والثالث، باعتبار أن الصحابة هم العصر الأول. فيقول في أصوله (ص71): ((والمشهور ما كان أوَّلُه كالآحاد، ثم اشتهر في العصر الثاني والثالث وتلقته الأمة بالقبول)). اهـ وذلك أنهم ثقاتٌ غير مُتَّهَمون، كما قال البزدوي في أصوله (كشف الأسرار 2/368): ((وهم القرن الثاني بعد الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم، وأولئك قومٌ ثقاتٌ أئمةٌ لا يُتَّهَمون)). اهـ وقال السرخسي في أصوله (1/292): ((لأنه وإن تواتر نقلُه مِن الفريق الثاني والثالث، فقد بقي فيه شبهة توهُّم الكذب عادةً باعتبار الأصل)). اهـ وقال بعدها (1/293): ((الإجماع مِن العصر الثاني والثالث دليلٌ موجبٌ شرعاً)). اهـ وقد أبانَ عن سبب ذلك علاءُ الدين البخاري فقال في شرحه (كشف الأسرار 2/368): ((والاعتبار للاشتهار في القرن الثاني والثالث، ولا عبرة للاشتهار في القرون التي بعد القرون الثلاثة فإن عامة أخبار الآحاد اشتهرت في هذه القرون)). اهـ وقال سعد الدين التفتازاني [ت 793 هـ] في كتابه "شرح التلويح" (2/5): ((لأن القرن الثاني والثالث وإن لم يتنزَّها عن الكذب، إلاَّ أنه في حدِّ التواتر)). اهـ وقال الكمال ابن الهمام (تيسير التحرير 3/37) وكذا ابن عبد الشكور البهاري (فواتح الرحموت 2/135): ((وهو ما كان آحاد الأصل متواتراً في القرن الثاني والثالث)). اهـ قال الشوكاني (إرشاد الفحول ص245): ((هكذا قالت الحنفية، فاعتبروا التواتر في بعض طبقاته وهي الطبقة التي رَوَتْهُ في القرن الثاني والثالث فقط)). اهـ

قلتُ: فعلى أصول الحنفية لا يقع التلقِّي بالقبول بعد
انقضاء عصر تابعي التابعين، وإنما العبرة بما تلقَّاه هؤلاء وأجمعوا على
العمل به في عصرهم.


ولأبي منصور عبد القاهر البغدادي رأيٌ قريبٌ مِن الحنفية، فقد زاد إلى القرونِ الثلاثةِ القرنَ الرابعَ أيضاً، فقال فيما نقله عنه الزركشي (البحر المحيط 4/243): ((خبر الواحد إذا صار إلى التواتر في العصر الثاني أو الثالث أو الرابع فهو مقطوعٌ بصدقه)). اهـ ولم أجد مَن تابَعَهُ عليه.

هل الاتفاق على العمل بالخبر يوجب القطع بصحته؟
مَرَّ عليكَ أنَّ فريقاً مِن العلماء يقولون إن تلقي الأمة
للخبر بالقبول والعمل به أفادنا العلم بصدقه والقطع بصحته، إذ الإجماع على
العمل إجماعٌ على الصحة. ومَرَّت أيضاً ردود الفريق الآخر في أن الإجماع
إنما انعقد على العمل بمقتضى الخبر وليس على صحته، فلا يُقطع بصدقه. ونريد
أن نستوضح هنا أن لفظ الصحَّة الذي يطلقونه على الخبر المتلقَّى بالقبول هل
يعنون به الصحة الحديثية مِن حيث ثبوت الإسناد عن النبي صلى الله عليه
وسلم، أم صحة المتن على وفق قواعد الفقهاء؟


أحاديث متلقاة بالقبول ولا تثبت من جهة الإسناد
مِن هذه الأحاديث حديث الوضوء مِن ماء البحر: {هو الطهور ماؤه الحل ميتته}.
وهو حديثٌ مختلَفٌ في إسناده، لذلك تحاشاه البخاريُّ ومسلمٌ ولم يخرجاه في
الصحيح مع كونه عُمدةً في بابه وذكره مالك في الموطأ. والكلام فيه يطول.
لكنَّ العمل عليه عند الفقهاء، مع عدم قوة إسناده. قال ابن عبد البر في
كتابه "التمهيد" (16/218): ((وهذا الحديث لا يحتجُّ أهلُ الحديث بمِثل إسناده. وهو عندي صحيحٌ لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالِف في جملته أحدٌ مِن الفقهاء، وإنما الخلاف في بعض معانيه)).
اهـ قلتُ: فحَكَمَ له ابنُ عبد البر بالصحة لا مِن أجل قطعية ثبوته عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لأجل اتفاق الفقهاء على العمل به. فهو إذن
صحيحٌ فقهياً، ولا يلزم مِن ذلك أن يكون صحيحاً حديثياً. ثم أكَّد ذلك
المعنى فقال (التمهيد 16/221): ((وقد أجمع جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتيا بالأمصار مِن الفقهاء:
أن البحر طهورٌ ماؤه، وأن الوضوء جائزٌ به. إلاَّ ما رُوي عن عبد الله بن
عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه رُوي عنهما أنهما كرها
الوضوء مِن ماء البحر. ولم يتابعهما أحدٌ مِن فقهاء الأمصار على ذلك ولا
عرَّج عليه ولا التفت إليه، لحديث هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدلُّك على استشهار الحديث عندهم وعملهم به وقبولهم له، وهذا أَوْلَى عندهم مِن الإسناد الظاهر الصحة بمعنىً تردُّه الأصول
)). اهـ


وهو نفسُ ما نصَّ عليه أيضاً الخطيب البغدادي حين تكلَّم عن
بعض الأحاديث التي لا تثبت أسانيدها ومِنها حديثنا هذا، فقال في كتابه
"الفقيه والمتفقه" (1/472): ((وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت مِن جهة الإسناد، لكن لمَّا تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها)).
اهـ فيتبيَّن أيضاً مِن كلام الخطيب البغدادي أن الصحَّة التي يقصدونها
ليست هي قطعية ثبوت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن جهة إسناده،
وإنما يعنون صحة المعنى الذي يدل عليه الحديث ويُعمل بمقتضاه.




موقفُ الشافعيِّ مِن حديث {لا وصية لوارث}
أبانَ الشافعيُّ عن موقفه مِن هذا الخبر وأنه لا يَثبت عند
أهل الحديث، ولكنَّ إجماع الفقهاء على العمل به. يقول في "الرسالة" (ص137):
((وَوَجَدْنا أهلَ الفُتيا ومَن حَفظْنا عنه مِن أهل العلم بالمغازي - مِن قريش وغيرهم - لا يختلفون في أن النبي قال عام الفتح: {لا وصية لوارث، ولا يُقتل مؤمنٌ بكافر
ويأثرونه عن مَن حفظوا عنه مِمَّن لقوا مِن أهل العلم بالمغازي. فكان هذا
نَقْلَ عامةٍ عن عامةٍ، وكان أقوى في بعض الأمر مِن نقل واحد عن واحد،
وكذلك وَجَدْنا أهلَ العلم عليه مجتمعين. قال: ورَوَى بعضُ الشاميين حديثاً
ليس مِمَّا يُثبته أهل الحديث، فيه أنَّ بعض رجاله مجهولون. فرويناه عن النبي منقطعاً. وإنما قَبِلْناه: بما وصفتُ مِن نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه، وإن كنا قد ذكرنا الحديثَ فيه. واعتمدنا على حديث أهل المغازي عاماً وإجماع الناس.
أخبرنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن مجاهد: أن رسول الله قال: {لا وصية لوارث}. فاستدللنا بما وصفتُ مِن نَقْلِ عامة أهل المغازي عن النبي أن {لا وصية لوارث} على أن المواريث ناسخةٌ للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المنقطع عن النبي، وإجماع العامة على القول به)). اهـ قلتُ: فقد نصَّ على قبوله هذا الخبر لأدلةٍ أخرى قامت عنده مضامَّة لهذا الحديث.

وقال رحمه الله في كتاب "الأم" (4/118): ((فوَجَدْنا الدلالةَ على أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوحةٌ بآي المواريث مِن وجهين. أحدهما: أخبارٌ ليست بمتصلةٍ عن النبي
صلى الله عليه وسلم مِن جهة الحجازيين، مِنها: أن سفيان بن عيينة أخبرنا،
عن سليمان الأحول، عن مجاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا وصية لوارث}. وغيرُه يثبته بهذا الوجه. ووَجَدْنا غيرَه قد يَصِلُ فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بمِثل هذا المعنى. ثم لَمْ نعلم أهلَ العلم في البلدان اختلفوا في أن الوصية للوالدين منسوخةٌ بآي المواريث
)). اهـ


قلتُ: فيظهر مِن كلام الشافعي أن الفقهاء تلقوا هذا الحديث
بالقبول ليس مِن جهة ثبوت إسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لشهرة
النقل فيه عن أهل المغازي واتفاق العامة عليه وعدم وجود مخالفٍ له مِن أهل
العلم. فهذا صريحٌ في أن مذهب الشافعي في المسألة هو أنه لا يَلزم مِن الإجماع على العمل بمقتضى الخبر أن يكون ذلك إجماعاً على الصحة.


والله أعلى وأعلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://minhaj.ahlamontada.com
منهاج السنة
لا اله الا الله محمد رسول الله
لا اله الا الله محمد رسول الله
منهاج السنة


خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Vitiligo-ae30eb86b8خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Iraqiaabc6667cb59
عدد المساهمات : 897
تاريخ التسجيل : 27/10/2012

خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Empty
مُساهمةموضوع: رد: خبر الواحد المتلقَّى بالقبول    خبر الواحد المتلقَّى بالقبول  Icon_minitimeالثلاثاء نوفمبر 06, 2012 8:04 am

الشهرة عند الفقهاء أقوى مِن الإسناد
حَكَمَ العلماءُ لعددٍ مِن الأحاديث بالصحة استناداً إلى
اشتهارها وتلقي الأمة إياها بالقبول، فأصَّلوا لذلك أصلاً: أن الخبر إذا
اشتهر واستفاض وعَمِلَت الأمة بمقتضاه، يُستغنى عن النظر في إسناده. قال
ابن عبد البر في كتابه "الاستذكار" (1/159) في حديث الوضوء بماء البحر: ((وهذا إسنادٌ وإن لم يُخرجه أصحاب الصحاح، فإن فقهاء الأمصار وجماعةً مِن أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهورٌ بل هو أصلٌ عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها. وهذا يَدُلُّكَ على أنه حديثٌ صحيح المعنى يُتلقَّى بالقبول والعمل الذي هو أقوى مِن الإسناد المنفرد)). اهـ وقال
في كتابه "التمهيد" (24/290) في أحد بلاغات مالك: ((وهذا
الحديث محفوظٌ عن ابن مسعود كما قال مالك. وهو عند جماعةٍ مِن العلماء
أصلٌ تلقوه بالقبول وبنوا عليه كثيراً مِن فروعه، واشتُهر عندهم بالحجاز
والعراق شهرةً يُستغنى بها عن الإسناد. كما اشتُهر عندهم قولُه عليه السلام {لا وصية لوارث}. ومثل هذه الآثار التي قد اشتهرت عند جماعة العلماء استفاضةً يكاد يُستغنى فيها عن الإسناد، لأن استفاضتها وشهرتها عندهم
أقوى مِن الإسناد)). اهـ وحديثُ {لا وصية لوارث} هذا قال فيه ابن عبد البر (التمهيد 24/438): ((وقد
رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن أخبار الآحاد أحاديثُ حسانٌ في أنه
لا وصية لوارثٍ مِن حديث عمرو بن خارجة وأبي أمامة الباهلي وخزيمة بن ثابت،
ونَقَلَه أهلُ السير في خطبته بالوداع صلى الله عليه وسلم. وهذا
أشهرُ مِن أن يُحتاج فيه إلى إسناد)). اهـ


لذلك فإن تلقِّي الفقهاء لحديثٍ بالقبول واتفاقَهم على
العمل به جارٍ على قواعدهم في التصحيح، وهذا خلاف قواعد أهل الحديث. لذلك
يقول أبو سليمان الخطابي في كتابه "معالم السنن" (3/151) في حديث التحالف:
((هذا حديثٌ اصطلح الفقهاءُ على قبوله، وذلك يدلُّ على أنَّ له أصلاً. كما اصطلحوا على قبول قوله {لا وصية لوارثوفي إسناده ما فيه)). اهـ يؤكِّده قولُ ابنِ عبد البر الذي سَلَفَ إن الحديث الذي يكون على هذا النحو هو ((حديثٌ صحيح المعنى يُتلقَّى بالقبول والعمل)). اهـ فنصَّ صراحةً على أن الصحة المحكوم بها هنا إنما هي صحة المعنى لا قطعية الثبوت عن النبي صلى الله عليه وسلم.




اختلاف طريقة الفقهاء عن طريقة المحدِّثين
مَرَّ عليكَ أن الشافعيَّ كان يأخذ بالحديث الذي لا يُحتجُّ
بإسناده إذا توافر لديه مِن الأدلة الأخرى ما يدلُّ على قبوله والعمل به.
وهذا كما ترى مِمَّا يميِّز منهج الفقهاء عن منهج المحدِّثين، ولم يزل أثرُ
ذلك باقياً إلى يوم الناس هذا. وقد سارَ على درب الشافعيِّ الإمامُ أحمدُ،
وكان هو أيضاً مِن الذين جمعوا بين الحديث والفقه. فقد رَدَّ أحاديث مِن
جهة أسانيدها على طريقة المحدِّثين، ثم أَخَذَ بها وعَمِلَ بمقتضاها على
طريقة الفقهاء!


قال القاضي أبو يعلى الفراء في كتابه "العدة" (3/938 فما بعد): ((وقد أَطْلَقَ أحمدُ رحمه الله القولَ بالأخذِ بالحديث الضعيف. فقال مهنَّا: قال أحمد: "الناس كلهم أكفاء، إلاَّ الحائك والحجَّام والكسَّاح". فقيل له: تأخذ بحديث {كل الناس أكفاء إلا حائكاً أو حجاماً} وأنت تضعفه! فقال: "إنما نضعِّف إسناده، لكن العمل عليه". وكذلك قال في رواية ابن مُشيش، وقد سأله عمَّن تحلُّ الصدقة؟ وإلى أي شيءٍ يَذهب في هذا؟ فقال: "إلى حديث حكيم بن جبير". فقلتُ: وحكيم بن جبير ثبتٌ عندك في الحديث؟ قال: "ليس هو عندي ثبتاً في الحديث".
وكذلك قال مهنَّا: سألتُ أحمد رحمه الله عن حديث معمر، عن الزهري، عن
سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن غيلان أسلم وعنده عشر
نسوة. فقال: "ليس بصحيح، والعمل عليه. كان عبد الرزاق يقول: عن معمر، عن الزهري مرسلاً".
ومعنى قول أحمد "ضعيف" على طريقة أصحاب الحديث،
لأنهم يُضَعِّفون بما لا يوجب تضعيفه عند الفقهاء كالإرسال والتدليس
والتفرد بزيادةٍ في حديثٍ لم يروها الجماعة. وهذا موجودٌ في كُتُبهم:
تفرَّد به فلانٌ وحده. فقوله "هو ضعيف" على هذا الوجه، وقوله "والعمل عليه"
معناه على
طريقة الفقهاء)). اهـ


وقال ابن رجب الحنبلي في كتابه "شرح علل الترمذي" (ص297) في الاحتجاج بالحديث المرسل: ((واعلم أنه لا تَنافي بين كلام الحفاظ وكلام الفقهاء في هذا الباب. فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعيَّن إذا كان مرسلاً، وهو ليس بصحيحٍ على طريقهم لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الفقهاء، فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي يدلُّ عليه الحديث)).
اهـ قلتُ: وهو عينُ ما ذَكَرَه قبلُ ابنُ عبد البر بأن الفقهاء إذا اتفقوا
على حديثٍ فإنما يتفقون على صحة معناه لا على صحة إسناده، وهذا تباينٌ
جليٌّ بين كلتا الطريقتين في التصحيح.


ثم إن مِن منهج الفقهاء أنهم لا يعتدُّون بعلل الحديث،
فتراهم يقبلون زيادة الثقة في الإسناد أو المتن ولا يلتفتون إلى مَن
خالَفَه. قال الحاكم في كتابه "المدخل إلى كتاب الإكليل" (ص47): ((فهذه الأخبار صحيحةٌ على مذهب الفقهاء، فإن القول عندهم فيها قولُ مَن زاد في الإسناد أو المتن إذا كان ثقةً. فأمَّا أئمة الحديث فإن القول فيها عندهم قول الجمهور الذي أرسلوه، لِما يُخشى مِن الوهم على هذا الواحد)). اهـ


وقد نصَّ على اختلاف كلا المنهجين ابنُ دقيق العيد حين
تكلَّم عن تعريف الحديث الصحيح، فقال في كتابه "الاقتراح في بيان الاصطلاح"
(ص5): ((الصحيح: ومدارُه بمقتضى الفقهاء والأصوليين
على عدالة الراوي العدالةَ المشترطة في قبول الشهادة على ما قُرِّر في
الفقه. فمَن لم يَقبل المرسل منهم، زاد في ذلك أن يكون مسنَداً. وزاد أصحابُ الحديث أنْ لا يكون شاذاً ولا معلَّلاً. وفي هذين الشرطين نظرٌ على مقتضى مذهب الفقهاء، فإن كثيراً مِن العلل التي يُعَلِّل بها المحدثون الحديثَ لا تجري على
أصول الفقهاء)). اهـ


قلتُ: وعلى هذا يُفهَم صنيع الترمذي في سننه، وكذلك صنيع الطبري في كتاب تهذيب الآثار. والله أعلى وأعلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://minhaj.ahlamontada.com
 
خبر الواحد المتلقَّى بالقبول
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منهاج السنة للرد على الشيعة :: ۞ الْقِـــسَمُ الْعَـــــامُّ ۞-
انتقل الى: