بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه ومَن تبع هديه
... وبعد ،،،
فقد
اتَّفَقَتْ كلمةُ علماء الأصول على وجوب العمل بخبر الواحد الذي تلقَّته
الأمة بالقبول، وإنما وَقَعَ الخلافُ بينهم في إفادته للعلم والقطع بصدقه.
فمنهم مَن قال إنه يفيد العلم، ومِنهم مَن نفى ذلك. وقد اجتهدتُ في أن أجمع
شتاتَ المسألة مِن كُتُب الأصول وأُحَقِّق نِسبةَ الأقوال إلى أصحابها،
والكمال لله وحده. وقبل أن نستعرض أقوال العلماء، نُمَهِّدُ بالكلام عن
تقسيم العلم وتقسيم الأخبار لدى الأصوليين. والله الموفق.
تقسيم العلم
اختلفت
آراء العلماء في تفاوت العلم مِن حيث الضرورة والاكتساب: فمِنهم مَن قال
إن العلم لا يكون إلاَّ ضرورياً، وعلى هذا القولِ إمامُ الحرمين وغيرُه.
ومِنهم مَن قال إنَّ مِنه ما هو ضروريٌّ ومِنه ما هو مكتسبٌ، وهو قول
الجمهور.
1- العلم الضروري: هو الذي يقع مِن غير نظرٍ ولا استدلالٍ، ويُسمَّى أيضاً العلم اليقيني.
2- العلم المكتسب: هو الذي يقع بالنظر والاستدلال، وهو منحطٌّ عن اليقين. ويُسمَّى أيضاً العلم النظري وعلم الظاهر. [يُنظر: البحر المحيط للزركشي 1/58 فما بعد]
وأَقْدَمُ مَن وقفتُ على تقسيمه للعلوم هو الكرخي [ت 340 هـ] إذ يقول في أصوله (ملحقة بتأسيس النظر للدبوسي ص166): ((الأصلُ: أنه يُفرَّق بين العلم إذا ثبت ظاهراً، وبينه إذا ثبت يقيناً)). اهـ
تقسيم الأخبار
قسَّم
العلماءُ الأخبارَ إلى قسمين: متواتر، وآحاد. إلاَّ أن الحنفية ومَن
وافقهم استحدثوا قسماً وسطاً بينهما أسموه المشهور والمستفيض، وهو ما ارتفع
عن درجة الآحاد وانحطَّ عن درجة المتواتر. فصارت القسمة ثلاثية:
1- المتواتر: وهو ما نقله جمعٌ عن جمعٍ يمتنع تواطؤهم على الكذب.
2- المستفيض: وهو خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول، ويُسمَّى أيضاً المشهور.
3- الآحاد: وهو ما لم يتواتر ولم يستفِض.
إفادة المتواتر للعلم اليقيني
جمهور
الأصوليين على أن الخبر المتواتر يفيد العلم الضروري اليقيني، وخالفهم في
ذلك أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي فذهب إلى أنه يفيد العلم المكتسب لا
الضروري فقال (التمهيد 3/25): ((إن
خبر الله سبحانه وخبر رسوله أقوى مِن أخبارنا، ثم العلم الواقع عن ذلك
مكتسبٌ مِن جهة الاستدلال لا مِن جهة الضرورة. فأَوْلَى أن تكون أخبار
غيرهما كذلك)). اهـ
إفادة الآحاد للظن
ذهب العلماءُ إلى أن خبر الواحد المجرَّد لا يفيد العلم بل الظن، وخالفهم في ذلك ابن خويزمنداد المالكي [ت
390 هـ] فقد ذَكَرَ عنه المازريُّ في كتابه "إيضاح المحصول" (ص442) أن خبر
الواحد عنده يوجب العلم الضروري بأسبابٍ تقوِّيه وتعضده كعدالة الراوي
وصدقه. ثم قال: ((فمجموع أمثال هذه الأحوال يراها كالقرينة المضامة لخبر الواحد المقتضية للعلم الضروري)). اهـ
وقد نَسَبَ ابنُ خويزمنداد هذا الرأيَ إلى مالك، ولم يوافقه أهلُ المذهب
عليه. وقال به أيضاً ابنُ حزم الظاهري [ت 456 هـ] فذهب إلى أنه يفيد العلم
اليقيني، فقال في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" (1/124): ((ثبت يقيناً أن خبر الواحد العدل عن مَن مِثلُه مبلغاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقٌّ مقطوعٌ به موجبٌ للعمل والعلم معاً)). اهـ
مذاهب العلماء في الخبر المستفيض
نظرتُ في مصنَّفات أهل الأصول لأقفَ على أقوالهم في تلك المسألة، فوجدتهم على ثلاثة مذاهب:
1- قوم قالوا إن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم اليقيني.
2- وقوم قالوا لا يوجب العلم اليقيني بل العلم النظري
3- وقوم قالوا لا يوجب العلم لا يقيناً ولا نظراً بل يوجب الظن لأنه آحاد
القائلون بإفادته للعلم اليقيني
أَقْدَمُ مَن وقفتُ
عليه مِن القائلين بهذا الرأي هو أبو هاشم الجبائي [ت 321 هـ] أحد أئمة
المعتزلة، وتَبِعَه فيه تلميذُه أبو عبد الله البصري [ت 369 هـ]. قال أبو
الحسين البصري المعتزلي في كتابه "المعتمد" 2/555): ((فأمَّا
خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على مقتضاه وحكمت بصحته، فإنه يُقطع على صحته
لأنها لا تُجمِع على خطأ. وإن لم تُجمِع على صحته، فعند الشيخ أبي هاشم
وأبي الحسن وأبي عبد الله رحمهم الله أن الأمة لا تُجمع على مقتضى خبر
الواحد إلاَّ وقد قامت به الحجة)). اهـ وأبو الحسن المذكور هنا هو
أبو الحسن الكرخي، ولم أقِف على قوله في هذه المسألة. ولعلَّ تقسيمه للعلم
في أصوله الذي ذكرناه آنفاً يجعله مِن القائلين بإفادة الخبر المتلقَّى
بالقبول للعلم الظاهر وليس اليقيني. وقد اعتمد الرازيُّ كلامَ أبي الحسين
البصري هنا في نِسبة هذا القول إلى الكرخي.
وقد وافقَ أبا هاشم الجبائيَّ في هذا القرافيُّ [ت 684 هـ] فقال في كتابه "نفائس الأصول" (7/2878) ردَّاً على الرازي: ((مُسَلَّمٌ
أنه يجوز الإقدام على العمل بالخبر الذي لا يُقطع بصدقه. لكن إذا عملوا به
وهو عندهم خبر واحدٍ غير معلوم الصدق لهم، صار معلوم الصدق لنا. لأنهم
معصومون عن العمل بالخطأ، فيُقطع بصدق ما عملوا به. وهو الذي قاله أبو هاشم)). اهـ
وقال به أيضاً ابن تيمية [ت 728 هـ] فقال في كتابه "مجموع الفتاوى" (18/48): ((وأيضاً
فالخبر الذي تلقَّاه الأئمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً بموجبه، يفيد
العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معنى المتواتر. لكنْ مِن الناس مَن
يسمِّيه: المشهور والمستفيض. ويقسِّمون الخبر إلى: متواتر، ومشهور، وخبر
واحد)). اهـ وقال في كتابه "جواب الاعتراضات المصرية" (ص43): ((والقسم
الثاني مِن الأخبار: ما لم يَرْوِه إلاَّ الواحد العدل ونحوه ولم يتواتر
لا لفظه ولا معناه، ولكن تلقَّته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له. كخبر
أبي هريرة: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها". فهذا يفيد العلم
اليقيني أيضاً عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم مِن الأولين
والآخرين)). اهـ وذكره أيضاً في كتابه "مقدمة في أصول التفسير" (ص67) فقال: ((جمهور
أهل العلم مِن جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول
تصديقاً له أو عملاً به، أنه يوجب العلم. وهذا هو الذي ذكره المصنِّفون في
أصول الفقه مِن أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلاَّ فرقة قليلة
مِن المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفةً مِن أهل الكلام أنكروا ذلك. ولكن
كثيراً مِن أهل الكلام - أو أكثرهم - يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف
على ذلك)). اهـ ونِسبتُه هذا القولَ إلى جمهور الأصوليين فيه نظرٌ، كما سيتبيَّن مِن أقوالهم.
القائلون بإفادته للعلم النظري
لمَّا استحدث الحنفيةُ
منزلةً بين التواتر والآحاد، أوجبوا لها علماً فوق الظن ودون اليقين.
ونَقَلْنا قولَ الكرخي في تقسيمه العلم إلى ما ثبت يقيناً وما ثبت ظاهراً،
وهو ما سار عليه الحنفيةُ مِن بعده ووافقهم فيه غيرهم. إلا أن هؤلاء قد
انقسموا إلى فريقين:
(1) فريقٌ يرى أن اتفاق الأئمة على العمل بمقتضى الخبر يوجب العلم النظري، سواءٌ اعتقد الأئمةُ صحته أم لا.
(2) وفريقٌ على التفصيل
فيرى أن مجرَّد اتفاقهم على العمل بالخبر لا يوجب العلم النظري ولا القطع
بالصحة، بل يشترطون أن يكون الأئمة قد اعتقدوا صِدْقَ الخبر أولاً
وتيقَّنوا صحَّته وإلاَّ فهو ظنيٌّ باعتبار الأصل.
الفريق الأول: مِن القائلين بأن الخبر المتلقَّى بالقبول يوجب العلم النظري على إطلاقه: الشاشي [ت 344 هـ] فقال في أصوله (ص71): ((والمشهور:
ما كان أوَّلُه كالآحاد ثم اشتُهر في العصر الثاني والثالث وتلقته الأمة
بالقبول، فصار كالمتواتر حتى اتصل بك. وذلك مثل حديث المسح على الخف،
والرجم في باب الزنا. ثم المتواتر يوجب العلم القطعي، ويكون ردُّه كفراً.
والمشهور يوجب علم الطمأنينة، ويكون ردُّه بدعة)). اهـ
وذهبَ
إليه أيضاً أبو بكر الجصَّاص [ت 370 هـ] إلاَّ أنه جعل الخبر المشهور
قسماً مِن أقسام المتواتر، ولكنه لم يوجب له العلم اليقيني بل النظري. فقال
في كتابه "الفصول" (3/37): ((فأما المتواتر فعلى
ضربين: ضربٌ يُعلم بخبره باضطرارٍ مِن غير نظرٍ ولا استدلالٍ، لِمَا يقارنه
مِن الدلائل الموجبة للعلم بصحته. وضربٌ مِنه لا يوجب العلم)). اهـ ثم قال عن القسم الثاني وهو المشهور (3/48): ((القسم الثاني مِن أقسام المتواتر: وهو ما يُعلم صحته بالاستدلال)). اهـ ثم قال بعدها عن هذه الأخبار: ((فنعلم بتأمُّلنا حالَها أنها صحيحةٌ، ولا توجب العلم الضروري)).
اهـ وقد بنى نتيجته هذه على مقدمتين. الأولى: أنَّ الأمة لمَّا تلقَّت
الخبر بالقبول واتفقت على العمل به، صار هذا إجماعاً. فتقوَّى الخبرُ بذلك
الإجماعِ، وارتفع عن رتبة الظن إلى العلم. فقال (2/360): ((ألاَ ترى أن قوله عليه السلام {لا وصية لوارثٍ} هو مِن أخبار الآحاد، وقد أجاز أصحابُنا نَسْخَ القرآن به لتلقِّي الناس إياه بالقبول واتفاقهم على استعمال حُكمه)). اهـ وقال (3/67): ((خبر الواحد إذا ساعده الإجماع، كان دليلاً على صحته وموجباً للعلم بمخبره)).
اهـ فقد صرَّح أن اتفاق الأئمة إنما كان على العمل بمقتضى الخبر، وأن هذا
الإجماع هو الذي ساعدَ خبرَ الواحد على إفادته للعلم النظري. وأما المقدمة
الثانية: فهي أن الأئمة لولا أنهم قد تيقَّنوا صحة هذه الأخبار، لَمَا
اتفقوا على قبولها والعمل بها. وهذا ما قاله مِن قبلُ أبو هاشم الجبائي
وغيرُه مِن المعتزلة كما ذكر أبو الحسين البصري في كتابه، لأنهم يرون أن
الاتفاق على العمل بالخبر يوجب القطع بصدقه والعلم بصحته.
ومِن القائلين بهذا أيضاً أبو إسحاق الإسفراييني [ت 418 هـ] فقد قال فيما نقله عنه الجويني في كتابه "البرهان" (1/223): ((وذكر
الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله قسماً آخر بين التواتر والمنقول آحاداً،
وسمَّاه المستفيض. وزعم أنه يقتضي العلم نظراً، والمتواتر يقتضيه ضرورةً.
ومَثَّلَ المستفيضَ بما يتفق عليه أئمة الحديث)). اهـ وقال فيما نقله عنه الزركشي في نكته على ابن الصلاح (1/280): ((الأخبارُ
التي في الصحيحين مقطوعٌ بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها
بحالٍ. وإن حصل في ذلك اختلافٌ، ففي طرقها أو رواتها. فمَن خالف حُكمُه
خبراً مِنها وليس له تأويلٌ سائغٌ للخبر، نقضنا حُكمه. لأن هذه الأخبار
تلقتها الأمة بالقبول)). اهـ وقد أغربَ أبو إسحاق في رأيه، إذ حَصَرَ التلقِّي بالقبول في ما يتفق عليه المحدثون وليس الفقهاء.
ومِن هذا الفريق أيضاً أبو منصور عبد القاهر البغدادي [ت 429 هـ] فقال في كتابه "أصول الدين" (ص12): ((والأخبار عندنا على ثلاثة أقسام: تواترٌ، وآحادٌ، ومتوسطٌ بينهما مستفيضٌ جارٍ مجرى التواتر في بعض أحكامه)). اهـ ثم قال: ((وأما
المتوسط بين التواتر والآحاد: فإنه شارك التواتر في إيجابه للعلم والعمل،
ويفارقه مِن حيث أن العلم الواقع عنه يكون مكتسباً، والعلم الواقع عن
التواتر ضروري غير مكتسب)). اهـ
ومِن هذا الفريق الدبوسي [ت 430 هـ] فقال في كتابه "تقويم الأدلة" (ص212): ((وأما المشهور فَحَدُّهُ: ما كان وسطه وآخره على حد التواتر، وأوَّلُه على حد خبر الواحد. وقد اختلف العلماء في حُكمه)). اهـ ونقل رأي الجصاص وعيسى بن أبان، ثم قال: ((ويسمَّى العلمُ عن خبر المتواتر علمَ يقينٍ، وعن الخبر المشتهر علمَ طمأنينةٍ)). اهـ ثم قال: ((إلاَّ أنَّا أبقينا مع هذا شبهةَ الآحادِ الثابتةَ في الطرف الأول، فلم نُكَفِّر جاحده. وحططنا رتبته عن رتبة التواتر)). اهـ
ومِن
هذا الفريق القاضي أبو يعلى الفراء [ت 458 هـ] فقد ذَكَرَ في كتابه
"العدة" (ص900) أنَّ جماعةً مِن أصحابهم قالوا: خبر الواحد إن كان شرعاً،
أوجب العلم. فقال أبو يعلى: ((وهذا عندي محمولٌ على
وجهٍ صحيحٍ مِن كلام أحمد رحمه الله، وأنه يوجب العلم مِن طريق الاستدلال
لا مِن جهة الضرورة. والاستدلال يوجب العلم مِن أربعة أوجه. أحدها: أن
تتلقَّاه الأمة بالقبول. فَدَلَّ ذلك على أنه حقٌّ، لأن الأمة لا تجتمع على
الخطأ. ولأن قبول الأمة يدلُّ على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته، لأن عادة
خبر الواحد الذي لم تقم الحجة به ألاَّ تجتمع الأمة على قبوله)). اهـ ثم ذكر الوجوه الأخرى، وقال: ((والعلم الواقع عن ذلك كلِّه مكتسبٌ، لأنه واقعٌ عن نظرٍ واستدلالٍ)). اهـ
ومنهم
أيضاً أبو الوليد الباجي المالكي [ت 474 هـ] فقد جعل المستفيضَ قسماً مِن
الآحاد وأوجب له علم الاستدلال. فقال في كتابه "إحكام الفصول" (2/335) إنَّ
أخبار الآحاد ((تنقسم إلى قسمين: قسمٌ يقع به العلم،
وقسمٌ لا يقع العلم به. فأمَّا ما يقع العلم بصحته مِن أخبار الآحاد: فإن
العلم يقع به بدليلٍ. وهو على ستة أضربٍ)). اهـ ثم قال: ((والسادس: خبر الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول)). اهـ
ومنهم أبو إسحاق الشيرازي [ت 476 هـ] فقد ذكر في كتابه "اللمع" (ص153) أن أخبار الآحاد على ضربين: ((أحدهما يوجب العلم، وهو على أوجهٍ)). اهـ ثم قال: ((ومِنها
خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول، فيُقطع بصدقه. سواءٌ عمل الكل به أو
عمل به البعض وتأوَّلَه البعض. فهذه الأخبار توجب العلم، ويقع العلم بها
استدلالاً)). اهـ وقد نَقَلَه بحروفه تلميذُه الخطيب البغدادي [ت 463 هـ] في كتابه "الفقيه والمتفقه" (1/278).
ومِنهم البزدوي [ت 482 هـ] فقد قال في أصوله (كشف الأسرار 2/362): ((المشهور ما كان مِن الآحاد في الأصل ثم انتشر، فصار ينقله قومٌ لا يُتوهَّم تواطؤهم على الكذب)). اهـ ثم قال: ((فصار بشهادتهم وتصديقهم بمنزلة المتواتر)). اهـ ثم فرَّق بينه وبين المتواتر فقال: ((العلم
بالمتواتر كان لصدقٍ في نفسه، فصار يقيناً. والعلم بالمشهور لغفلةٍ عن
ابتدائه وسكونٍ إلى حاله، فسُمِّي علم طمأنينةٍ. والأول علم اليقين)). اهـ
ومِنهم السرخسي [ت 483 هـ] فقد قال في أصوله (1/291) عن الخبر المشهور: ((فأمَّا النوع الثاني: فهو مشهورٌ وليس بمتواترٍ، وهو الصحيح عندنا)). اهـ ثم فرَّق بينه وبين المتواتر فقال إنه يثبت به ((علم
طمأنينة القلب لا علم اليقين: وهذا لأنه وإن تواتر نَقْلُه عن الفريق
الثاني والثالث، فقد بقي فيه شبهة تَوَهُّمِ الكذب عادةً باعتبار الأصل.
فإن رواته عددٌ يسيرٌ، وعلمُ اليقين إنما يثبت إذا اتصل بمن هو معصومٌ عن
الكذب على وجهٍ لا يبقى فيه شبهة الانفصال. وقد بقي هنا شبهة الانفصال
باعتبار الأصل، فيمنع ثبوت علم اليقين به)). اهـ
ومِنهم أبو المظفر السمعاني [ت 489 هـ] فقد اعتمدَ ما اعتمده أبو إسحاق الشيرازي مِن قبلُ، فقال في كتابه "قواطع الأدلة" (2/255): ((خبر الواحد قد يوجب العلم في مواضع)). اهـ ثم قال: ((ومِنها
خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول وعملوا به لأجله، فيُقطع بصدقه.
وسواءٌ في ذلك عمل الكل به، أو عمل البعض وتأوَّلَه البعض)). اهـ
ومِنهم أبو الخطاب الكلوذاني [ت 510 هـ] فقد قال في كتابه "التمهيد" (3/83): ((فأما خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على حُكمه وتلقته بالقبول: فاختلفت الناس في ذلك. فظاهر كلام أصحابنا: أنه يقع به العلم)). اهـ ثم قال: ((ومِن الناس مَن قال: لا يقع به العلم)). اهـ ثم ذَهَبَ إلى ما ذَهَبَ إليه الجصاص ومِن قبله الجبائي المعتزلي أن التلقي بالقبول إجماعٌ على الصحة، فقال: ((إذا أجمعوا على تلقيه بالقبول، فقد أجمعوا على صحته)).
اهـ والعلم الذي يقصده الكلوذاني هو العلم المكتسب وليس اليقيني، فقد
ذكرنا قبلُ أنه لم يوجِب للمتواتر علمَ الضرورة بل علم النظر والاستدلال،
فهو في ما دون التواتر أَوْلَى.
ومِنهم
ابن العربي المالكي [ت 543 هـ] فقد وافَق الباجي وغيره مِن أهل المذهب،
وجَعَل المستفيضَ قسماً مِن الآحاد. فقال في كتابه "المحصول" (ص115): ((قال علماؤنا: خبر الواحد على ضربين. أحدهما: يوجب العلم والعمل كالمتواتر)). اهـ ثم مَثَّلَ له وقال: ((والخامس: خبر واحدٍ تلقَّته الأمة بالقبول، فإمَّا قالوا بظاهره وإمَّا تأوَّلوه، ولم يكن منهم نكيرٌ عليه)). اهـ
ومِنهم
ابن قدامة المقدسي [ت 620 هـ] فقد فرَّق بين المتواتر الذي يفيد العلمَ
بمجرَّده، وبين الآحاد التي قد تفيد العلمَ بدليلٍ. فقال في كتابه "روضة
الناظر" (ص48): ((فالمتواتر يفيد العلم ويجب تصديقه،
وإن لم يدلَّ عليه دليلٌ آخر. وليس في الأخبار ما يُعلم صدقه بمجرَّده إلا
المتواتر، وما عداه إنما يُعلم صدقه بدليلٍ آخر يدلُّ عليه سوى نفسِ الخبر)). اهـ ويقصد بقوله ((وما عداه)) أي أخبار الآحاد، كما صرَّح بذلك فقال (ص52): ((أخبار الآحاد وهي ما عدا المتواتر)). اهـ
ومِنهم
أيضاً أبو البركات النسفي [ت 710 هـ] في كتابه "كشف الأسرار" (2/12)،
وعلاء الدين البخاري [ت 730 هـ] في كتابه "كشف الأسرار" (2/368)، والشوكاني
[ت 1250 هـ] في كتابه "إرشاد الفحول" (ص237، ص255).
الفريق الثاني:
ويرى أن اتفاق الأئمة على العمل بالخبر إن كان جزماً منهم بصحته وقطعاً
بصدقه، فهو يوجب العلم النظري. أمَّا إن كان اتفاقهم على العمل فقط، فالخبر
حينئذٍ لا يفيد إلاَّ الظن شأنه شأن غيره مِن الآحاد. فهُم على التفصيل في
المسألة.
وأَقْدَمُ
مَن وقفتُ على رأيه في هذا الفريق هو أبو بكر بن فُورك [ت 406 هـ] فقد قال
في كتابه "مشكل الحديث" (ص18) عن أقسام أخبار الآحاد: ((فمِنها
ما نقول إنها تؤدي إلى علمٍ مكتسبٍ واعتقادٍ على طريق القطع، لا على الوجه
الذي يُضطر السامعُ فيه إلى العلم بما يسمعه مِن أخبار التواتر. ولكنه على
الوجه الذي نقول: إنَّ ما أجمعت عليه الأمة مقطوعٌ به معتقَدٌ صحته،
ويُعلم ذلك بنوعٍ مِن النظر والاستدلال)). اهـ ثم قال: ((فهذا
النوع يؤدي إلى علمٍ مكتسبٍ واعتقادٍ لصحته، نحو الاعتقاد لما ذكرناه مِن
أخبار السنن وما جرى مجراه مِمَّا لم يبلغ درجة التواتر في القطع به ووقوعِ
العلم الضروري للسامع به. وارتفعت درجته عن درجة أخبار الآحاد، وهي القسمة
الوسطى مِن أقسام الأخبار، لأنها: تواتر، ومستفيض، وآحاد)). اهـ وقال فيما نقله عنه الجويني في كتابه "البرهان" (1/223): ((وقال
الأستاذ أبو بكر بن فورك رحمه الله: "الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول
محكومٌ بصدقه". وفصَّل ذلك في بعض مصنفاته، فقال: "إن اتفقوا على العمل به،
لم يُقطع بصدقه وحُمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد. وإن
تلقوه بالقبول قولاً وقطعاً، حُكم بصدقه")). اهـ
ومِن هذا الفريق أيضاً المازري [ت 536 هـ] فقد قال في كتابه "إيضاح المحصول" (ص419) بعد أن ذكر اختلاف العلماء في الخبر المستفيض: ((ولكن
الإنصاف التفصيل في تصديق الخبر المروي: فإن لاح مِن سائر العلماء مخايل
القطع والتصميم وأنهم أسندوا التصديق إلى اليقين، فلا وجه للتشكيك. ويُحمل
على أنهم علموا صحة الحديث مِن طريقٍ خفيت علينا، إمَّا أخبار نُقلت
تواتراً واندرست – إن كان الخبر مِمَّا يصحُّ اندراسه – أو مِن غير هذه
الطريق. وإن لاح منهم التصديق مستنداً إلى تحسين الظن بالعدول وبداراً إلى
القبول مِن جملة السنن وانقياداً إليها، فلا وجه للقطع)). اهـ
ومِنهم الأسمندي [ت 552 هـ] فقد قال في كتابه "بذل النظر" (ص383): ((إذا
أخبر الواحدُ خبراً وأجمعت الأمة على العمل بموجبه وحكمت بصحته، فإنه
يدلُّ على أن النبي عليه السلام قال ذلك. لأنه لا يجوز أن تجتمع الأمة على
الخطأ. وأما إن عُمل بموجبه ولم يُحكم بصحته، ذهب جماعةٌ مِن المتكلمين أنه
يُقطع على أن النبي عليه السلام قد قال ذلك، وهو قول الشيخ أبي الحسن
الكرخي رحمه الله. وقال غيرهم: إنه لا يُقطع على ذلك)). اهـ
ومِنهم الزركشي [ت 794 هـ] فقد عَرَض في كتابه "البحر المحيط" (4/246) للخلاف في المسألة، ثم قال: ((أمَّا
إجماعهم على العمل على وفق الخبر، فلا يقتضي صحته فضلاً عن القطع به، فقد
يعملون على وفقه بغيره. جزم به النووي في "الروضة" في كتاب القضاء)). اهـ