بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
يستشهد الكثير من أعداء الإسلام للتشكيك في نقل القرآن بحديث عائشة
والذي جاء فيه : (لقد نزلت آية الرجم ، ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في
صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته ،
دخل داجن فأكلها)
والحق أن هذا
الحديث لا يصح فإن ذكر الرضاع فيه
غلط ، وقد أخرجه: أحمد في المسند رقم:25771 وابن ماجه في السنن رقم : 1940
وأبو يعلى رقم 4587 ، 4588 والطبراني في الأوسط رقم: 7957والبيهقي في
معرفة السنن والاثار رقم: 4952 والدارقطني رقم: 3834 وابن حزم في المحلى
بالآثار رقم: 1528 والجورقاني في الأباطيل والمناكير والمشاهير رقم: 524،
من طرق عن محمد بن اسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة
به.وعَنْ عبد الرحمن بن الْقَاسِمِ عن أبيه، عن عَائِشَةَ
به.
وسند هذا الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار وهو مدلِّس،
وقد تفرد به وأخطأ واضطرب فيه ولم يصرِّح بالسماع في شيءٍ من الطرق، ومع
ذلك فهو مُخْتَلَفٌ في قبول ما ينفرد به لو صرَّح بالسماع، ويكفينا الأخذ
بالعلَّة الْمُتَيَقَّنَة، وهي عدم تصريحه بالسماع، ومع هذا فقد صححه أبو
محمد بن حزم في "المحلى"، والألباني في سنن ابن ماجة، وهذا من حيث النظر في
الإسناد.
قال الطبراني في المعجم الأوسط (وهو من مظان الأحاديث الشاذة والمعلولة)بعد
إخراجه للحديث: لم يرو هذا الحديث عن عبد الرحمن بن القاسم إلا محمد بن
إسحاق.
قلت: أخطأ في هذا الحديث محمد بن إسحاق صاحب المغازي وقد
تفرد به، ولا يحتمل منه. مثل هذا. وقد خالف مالك، ومالك أثبت وأوثق بمفاوز من ابن إسحاق.
قال الجورقاني: هذا
حديث باطل،
تفرد به محمد بن إسحاق هو ضعيف الحديث وفي إسناد هذا الحديث بعض الإضطراب في خلاف ذلك.
على ان هناك بعض العلماء الافاضل قد بينوا معنى الحديث والمراد منه فقالوا :
قال البيهقي : هكذا بلغنا هذا الحديث ، وهذا أمر وقع ، فأخبرت عن الواقعة
دون تعلق حكم بها ، وقد كانت آية الرجم معلومة عند الصحابة وعلموا نسخ
تلاوتها وإثباتها في المصحف دون حكمها ، وذلك حين راجع النبي صلى الله عليه
وسلم عمر
في كتبها ، فلم يأذن له فيها . وأما رضاعة الكبير فهي عند غير عائشة
منسوخة ، أو كانت رخصة لسالم وحده ، فلذلك لم يثبتوها . وأما رضاعته عشرا فقد أخبرت في ، رواية عمرة ، عن عائشة
، أنها صارت منسوخة بخمس يحرمن ، فكان نسخ حكمها وتلاوتها معلوما عند الصحابة ،
فلأجل ذلك لم يثبتوها لا لأجل أكل الداجن صحيفتها ، وهذا واضح بين بحمد الله ونعمته. انتهى
وقال السرخسي في أصوله:
" والدليل على بطلان هذا القول ، قوله تعالى: ( إِنّا نَحْنُ نَزّلنا الذِّكْر وَإِنّا لَهُ لَحافِظُون).
ومعلوم أنّه ليس المراد الحفظ لديه تعالى ، فانّه يتعالى من أن يوصف
بالغفلة أو النسيان فعرفنا أنّ المراد الحفظ لدينا ، وقد ثبت أنّه لا ناسخ
لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم
) ولو جوّزنا هذا في بعض ما أوحي إليه ، لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه ،
فيؤدّي ذلك إلى القول بأن لا يبقى شيء ممّا ثبت بالوحي بين الناس في حال
بقاء التكليف. وأيّ قول أقبح من هذا ؟! ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون
بعض ما بأيدينا اليوم أو كلّه مخالفاً لشريعة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه
وآله وسلَّم ) بأن نسخ اللّه ذلك بعده ، وألف بين قلوب الناس على أن
ألهمهم ما هو خلاف شريعته.
فلصيانة الدين إلى آخر الدهر أخبر اللّه تعالى أنّه هو الحافظ لما أنزله
على رسوله ، وبه يتبيّن انّه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته، وما ينقل من
أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصحّ شيء منها.
قال : وحديث عائشة
لا يكاد يصحّ، لأنّه ( أي الراوي ) قال في ذلك الحديث :
وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله
وسلَّم ) فدخل داجن البيت فأكله. ومعلوم أنّ بهذا لا ينعدم حفظه من
القلوب، ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أُخرى، فعرفنا أنّه
لا أصل لهذا الحديث. " اهـ أُصول السرخسي : 2 / 78 ـ 80.
ــ والتشريع الإسلامي في حياة النبي
مر بمراحل عدة حتى وفاته
،
وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومن ذلك وقوع النسخ لبعض الأحكام والآيات،
والنسخ عرفه العلماء بأنه: رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر.
ولم يقع خلاف بين الأمم حول النسخ ، ولا أنكرته ملة من الملل قط، إنما خالف
في ذلك اليهود فأنكروا جواز النسخ عقلاً، وبناء على ذلك جحدوا النبوات بعد
موسى عليه السلام، وأثاروا الشبهة، فزعموا أن النسخ محال على الله تعالى
لأنه يدل على ظهور رأي بعد أن لم يكن، وكذا استصواب شيء عُلِمَ بعد أن لم
يعلم، وهذا محال في حق الله تعالى.
ــ والقرآن الكريم رد على هؤلاء وأمثالهم في شأن النسخ رداً صريحاً، لا
يقبل نوعاً من أنواع التأويل السائغ لغة وعقلاً، وذلك في قوله تعالى : (ما
ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء
قدير) البقرة:106 فبين سبحانه أن مسألة النسخ ناشئة عن مداواة وعلاج مشاكل
الناس، لدفع المفاسد عنهم وجلب المصالح لهم، لذلك قال تعالى: (نأت بخير
منها أو مثلها) ثم عقب فقال: ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير*ألم تعلم
أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)
والنسخ ثلاثة اقسام:
الأول: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ومثاله آية الرجم وهي (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة..( هذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه.
الثاني: نسخ الحكم والتلاوة معاً: ومثاله قول عائشة
رضي الله عنها: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ
بخمس معلومات يحرمن) فالجملة الأولى منسوخة في التلاوة والحكم، أما الجملة
الثانية فهي منسوخة في التلاوة فقط، وحكمهاباق عند الشافعية.
- قال الإمام القرطبي:
"وروى زر قال قال لي أبي بن كعب
: كم تعدون سورة الأحزاب ؟
قلت ثلاثا وسبعين آية، قال: فو الذي يحلف به أبي بن كعب
إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. أراد أبي
أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في
صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن
فمن تأليف الملاحدة والروافض. " اهـ تفسير القرطبي ج 14 ص 113
ــ قال ابن حزم رحمه الله تعالى: فصح نسخ لفظها، وبقيت الصحيفة التي كتبت
فيها كما قالت عائشة رضي الله عنها فأكلها الداجن، ولا حاجة إليها.. إلى أن
قال: وبرهان هذا أنهم قد حفظوها، فلو كانت مثبتة في القرآن لما منع أكل
الداجن للصحيفة من إثباتها في القرآن من حفظهم وبالله التوفيق.
ــ وقال ابن قتيبة: فإن كان العجب من الصحيفة فإن الصحف في عهد رسول الله
أعلى ما كتب به القرآن، لأنهم كانوا يكتبونه في الجريد والحجارة والخزف
وأشباه هذا وإن كان العجب من وضعه تحت السرير فإن القوم لم يكونوا ملوكاً
فتكون لهم الخزائن والأقفال والصناديق، وكانوا إذا أرادوا إحراز شيء أو
صونه وضعوه تحت السرير ليأمنوا عليه من الوطء وعبث الصبي والبهيمة، وكيف
يحرز من لم يكن في منزله حرز ولا قفل ولا خزانة، إلا بما يمكنه ويبلغه
وجده، ومع النبوة التقلل و البذاذة كان رسول الله
يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويصلح خفه، ويقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد
وإن كان العجب من الشاة فإن الشاة أفضل الأنعام، فما يعجب من أكل الشاة تلك
الصحيفة، وهذا الفأر شر حشرات الأرض، يقرض المصاحف ويبول عليها، ولو كانت
النار أحرقت الصحيفة أو ذهب بها المنافقون كان العجب منهم.
وكما يقال: لنفترض جدلاً أن القصة صحيحة، فهذا لا يضر إطلاقا، ولا دليل فيه
على نقصان القرآن ومناقضته للحفظ من الضياع، لأن هناك دليل آخر يثبت أن ما
في هذه الصحيفة ليس من العرضة الأخيرة بل وليس مما كتب بين يدي النبي صلى
الله عليه وآله وسلم.
قال الشيخ سعد الحميد وغيره:
وأما متن الحديث - لو صحَّ - فليس فيه مايشكل بحمد الله؛ لأنه دال على أن
الشاة أكلت الصحيفة التي فيها آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً، وكلاهما
منسوخ تلاوته؛ فقد روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان فيما
نزل من القرآن عشر رضعاتٍ معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلوماتٍ يحرمن))،
وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال وهو جالس على منبر رسول الله- صلى الله
عليه وسلم -: ((إن الله قد بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وأنزل
عليه الكتاب؛ فكان مما أنزل عليه آية الرجم؛ قرأناها ووعيناها وعقلناها؛
فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده...))، وهو ظاهر في
حفظهم ووعيهم لها عن ظهر قلب، فما الذي يضر إن فقدت الصحيفة؟!! فالعبرة
بالحفظ، والتواتر عليه؛ قال أبو محمد ابن حزم : ((فصح نسخ لفظها، وبقيت
الصحيفة التي كتبت فيها، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - فأكلها الداجن،
ولا حاجة إليها...)) إلى أن قال: ((وبرهان هذا أنهم قد حفظوها، فلو كانت
مثبتة في القرآن لما منع أكل الداجن للصحيفة من إثباتها في القرآن من حفظهم
وبالله التوفيق)). وقال أبو محمد بن قتيبة: ((ونحن نقول: إن هذا الذي
عجبوا منه كله ليس فيه عجب، ولا في شيء مما استفظعوا منه فظاعة، فإن كان
العجب من الصحيفة فإن الصحف في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى
ما كتب فيه القرآن؛ لأنهم كانوا يكتبونه في الجريد والحجارة والخزف وأشباه
هذا، وإن كان العجب من وضعه تحت السرير، فإن القوم لم يكونوا ملوكاً؛ فتكون
لهم الخزائن والأقفال وصناديق الآبنوس والساج، بل كانوا إذا أرادوا حفظ
شيء أو صونه؛ وضعوه تحت السرير ليأمنوا عليه من الوطء وعبث الصبية
والبهيمة؛ وكيفيحفظ من لم يكن في منزله حرز ولا قفل ولا خزانة إلا بما
يمكنه ويبلغه وجده، ومع النبوة التقلل والبذاذة؟! وإن كان العجب من الشاة،
فإن الشاة أفضل الأنعام؛ فما يعجب من أكل الشاة تلك الصحيفة، وهذا الفأر
شر حشرات الأرض يقرض المصاحف ويبول عليها، وهذا العث يأكلها ولو كانت النار
أحرقت الصحيفة أو ذهب بها المنافقون كان العجب منهم أقل)).
وتتميما للفائدة سنذكر نبذة مختصرة عن المنهج الرباني الفريد المحكم، الذي
اتبعه الصحب الكرام في جمع القرآن، ومن تأمله عَلِم عِلْم اليقين أنه ليس
جهداً بشرياً؛ وإنما هو توفيق الله ومدده للصحب الكرام؛ لأنه سبحانه تكفل
بحفظه ولم يكله إلى أحد من خلقه قال تعالى :{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
ومن المعلوم أن القرآن الكريم نقل تواتراً، وأن المسلمين توارثوا نقله
جيلاً عن جيل، ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه إلا والقرآن كله
محفوظ، مكتوب على رقاع متفرقة وما شابهها، وفي منتصف خلافة أبي بكر دعت
الحاجة إلى كتابة ما كتب مفرقاً من الصحائف، التي كتبها كتبة الوحي في حضرة
النبي - صلى الله عليه وسلم - وجمعه في مصحف، ثم جمع عثمان - رضي لله عنه -
القرآن على حرف واحد لما دعت الحاجة إليه؛ فأدرك الأمة قبل أن تتفرق حول
القرآن كما تفرق اليهود والنصارى، وندب لهذه المهمة: زيد بن ثابت، وعبد
الله بن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن الحارث، وكان زيد - من
كتبة الوحي - حافظاً متقناً للقرآن سماعاً مباشراً من فم النبي - صلى الله
عليه وسلم - وحضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم -
على جبريل، وهو الذي جمع القرآن في خلافة أبي بكر، وتم الجمع وفق منهج دقيق
حكيم للغاية، قوامه أمران:
الأول: المصحف الذي تم تنسيقه في خلافة أبي بكر؛ فكان لا يُقبل شيء في
مرحلة الجمع الثاني ليس موجوداً في تلك الوثائق الخطية، التي سجلها كتبة
الوحي في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم.
الثاني: مطابقة الآيات المحفوظة لما في مصحف أبي بكر عن رجلين من أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يكفي حفظ الرجل الواحد، ولا يكفي
وجودها في مصحف أبي بكر؛ بل لا بد من الأمرين معاً؛ فقد روى البخاري عن زيد
بن ثابت الأنصاري قال: ((أرسل إليَّ أبو بكر مقتلَ أهل اليمامة وعنده عمر؛
فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد اسْتَحَرَّ يوم اليمامة
بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتلُ بالقراء في المواطن؛ فيذهب كثير من
القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: قلت لعمر:
كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله
خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى
عمر. قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم؛ فقال أبو بكر: إنك رجل شاب
عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع
القرآن فاجمعه؛ فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال؛ ما كان أثقل علي مما
أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي - صلى الله
عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري
للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر؛ فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع
والأكتاف والعسب وصدور الرجال)).
هذا؛ وما ذكره السائل الكريم في سؤاله هو شبهة من شبه أعداء القرآن العظيم؛
فهم يرمون بالشبهة تلو الشبهة؛ طمعاً في أن ينال هذا من قرآننا العظيم؛
وهيهات؛ فقد قيَّض الله لهم في كل عصر ومصر جهابذة، يردونهم خاسرين بمقامع
الحجج الناصعة. والله أعلم.
والله الموفق لمعرفة الحق واتباعه.