وجود رواية لمروان بن الحكم في صحيح البخاري ، مع ما عرف من البخاري رحمه الله من الدقة و شدة التحري في أمر من تقبل روايته ، فلو صح قيام مروان بقتل طلحة رضي الله عنه لكان هذا سبباً كافياً لرد روايته و القدح في عدالته . و الرواية في صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (3/493) .
ب- استبعاد ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (7/248) لهذا الأمر و تشكيكه فيه بقوله : و يقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم . و قد قيل : إن الذي رماه بهذا السهم غيره ، و هذا عندي أقرب ، و إن كان الأول مشهوراً ، والله أعلم .
جـ- ثناء الأئمة عليه كالإمام أحمد ، و الحافظ ابن حجر . سير أعلام النبلاء للذهبي (3/477) و الإصابة لابن حجر (6/257-259) .
د- بطلان السبب الذي قيل إن مروان قتل طلحة رضي الله عنه من أجله ، و هو اتهام مروان لطلحة بأنه أعان على قتل عثمان رضي الله عنه . و هذا السبب المزعوم غير صحيح حيث إنه لم يثبت من طريق صحيح أن أحداً من الصحابة قد أعان على قتل عثمان رضي الله عنه .
هـ - كون مروان و طلحة رضي الله عنهما ، في صف واحد يوم الجمل ، و هو صف المنادين بالإصلاح بين الناس .
و - أن معاوية رضي الله عنه قد ولى مروان على المدينة و مكة ، انظر خبر توليته في : تاريخ الطبري (5/293) ، فلو صح ما بدر من مروان لما ولاه معاوية رضي الله عنه على رقاب المسلمين و في أقدس البقاع عند الله . لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع راجع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص202-203) .
و في أثناء المعركة قال علي للزبير : أتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : يا زبير أما والله لتقاتلنه و أنت ظالم له . تاريخ دمشق لابن عساكر (18/408-410) .
روى الحاكم في المستدرك (3/365-366) من طرق متعددة أن علياً ذكرّ الزبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لتقاتلن علياً و أنت ظالم له ، فلذلك رجع .
و أخرج إسحاق من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد السلام - رجل من حيه - قال : خلا علي بالزبير يوم الجمل فقال : أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول و أنت لاوي يدي : لتقاتلنه و أنت ظالم له ثم لينتصرن عليك . قال : قد سمعت ، لا جرم لا أقاتلك . ذكره الحافظ في الفتح (13/60) و انظر المطالب العالية (4/301) .
و روى ابن عساكر في تاريخه (18/410) وابن كثير في البداية (7/242) أن الزبير رضي الله عنه لما عزم عل الرجوع إلى المدينة عرض له ابنه عبد الله فقال : مالك ؟ قال : ذكرّني علي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم و إني راجع ، فقال له ابنه : و هل جئت للقتال ؟ إنما جئت تصلح بين الناس ، و يصلح الله هذا الأمر .
و بالفعل فإن موقف الزبير رضي الله عنه كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة ، و هذا ما أخرجه الحاكم في المستدرك (3/366) من طريق أبي حرب بن أبي الأسود الديلي ، و فيه أن الزبير رضي الله عنه سعى في الصلح بين الناس و لكن لما قامت المعركة واختلف أمر الناس مضى الزبير و ترك القتال .
و هذا الفعل من الزبير رضي الله عنه هو الذي ينسجم مع مقصده الذي قدم البصرة من أجله ، لا كما تصوره بعض الروايات من أنه كان من المحرضين على القتال .
و أثناء انسحابه رضي الله عنه رآه ابن جرموز فتبعه فأدركه و هو نائم في القائلة ، بوادي السباع ، فهجم عليه فقتله رضي الله عنه ، ثم سلب سيفه و درعه . الفصل في الملل و النحل لابن حزم (4/239) . و قال ابن كثير أن هذا القول هو الأشهر . أنظر : البداية و النهاية (7/250) .
ذكر الحافظ في الفتح (6/264-265) و (7/102) : أن ابن جرموز جاء إلى علي متقرباً إليه بذلك ، فأمسك علي السيف بيده و قال : طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال : بشر قاتل ابن صفية بالنار . أنظر : المسند (1/89 ، 102) و صححه الحاكم في المستدرك (4/367) و و ذكره أحمد في كتاب فضائل الصحابة بإسناد حسن (2/736-737) بلفظ قريب و فيه : جاء قاتل الزبير يستأذن ، فجاء الغلام فقال : هذا قاتل الزبير فقال : ليدخل قاتل الزبير النار ، و جاء قاتل طلحة يستأذن فقال الغلام : هذا قاتل طلحة يستأذن ، فقال : ليدخل قاتل طلحة النار .
و هذا الخبر يؤيده ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/737) بإسناده حسن ، و فيه أن ابن جرموز استأذن على علي رضي الله عنه فقال : من هذا ؟ فقال : ابن جرموز يستأذن . فقال : ائذنوا له ليدخل قاتل الزبير النار ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لكل نبي حواريّ و إن حوارييّ الزبير .
و في تعليل هذه الجرأة من ابن جرموز على قتل الزبير رضي الله عنه يقول الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة (ص322) : و كثر في أيامه - أيام عثمان رضي الله عنه - من لم يصحب الرسول ، و فُقد من عَرَفَ فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
هنا ذهب كعب بن سَور بالخبر إلى أم المؤمنين فقال لها : أدركي الناس قد تقاتلوا . و كانت المعركة قريبة من البصرة ، فوضع لها الهودج فوق البعير – ورد أن اسم البعير عسكر - فجلست فيه و غطي بالدروع ، و ذهبت إلى أرض المعركة لعل أن يوقف الناس القتال عندما يشاهدونها ، فلما وصلت ، أعطت عائشة المصحف لكعب و قالت له : خلِّ البعير و تقدم و ارفع كتاب الله و ادعهم إليه ، فشعر أهل الفتنة بأن القتال سيتوقف إذا تركوا كعباً يفعل ما طُلب منه ، فلما قام كعب و رفع المصحف و أخذ ينادي تناولته النبال فقتلوه ، كما جاء في رواية الطبري (4/513) من طريق سيف بن عمر ، و ابن عساكر في تاريخ دمشق (7/88) .
ثم أخذوا بالضرب نحو الجمل ، بغية قتل عائشة لكن الله نجاها ، فأخذت تنادي : أوقفوا القتال ، و أخذ علي ينادي و هو من خلف الجيش : أن أو قفوا القتال ، و قادة الفتنة مستمرين ، فقامت أم المؤمنين بالدعاء على قتلة عثمان قائلة : اللهم العن قتلة عثمان ، فبدأ الجيش ينادي معها ، و حين سمع علي رضي الله عنه أثناء المعركة أهل البصرة يضجون بالدعاء ، قال : ما هذه الضجة ؟ فقالوا : عائشة تدعو و يدعون معاً على قتلة عثمان و أشياعهم ، فأقبل علي يدعو و يقول : اللهم العن قتلة عثمان و أشياعهم . الطبري (4/513) .
و روى ابن أبي شيبة في المصنف (15/277) و البيهقي في السنن الكبرى (8/181) أن علياً سمع يوم الجمل صوتاً تلقاء أم المؤمنين فقال : انظروا ما يقولون ، فرجعوا فقالوا : يهتفون بقتلة عثمان ، فقال : اللهم أحلل بقتلة عثمان خزياً .
و يؤيد هذا الخبر ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1/455) بإسناد صحيح ، من طريق محمد بن الحنفية قال : بلغ علياً أن عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد ، قال : فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال : و أنا ألعن قتلة عثمان ، لعنهم الله في السهل والجبل ، قال مرتين أو ثلاثاً . و ارتفعت أصوات الدعاء في المعسكرين ..
يقول الحارث بن سويد الكوفي - شاهد عيان ثقة ثبت - لقد رأيتُنا يوم الجمل ، و إن رماحنا و رماحهم لمتشاجرة و لو شاءت الرجال لمشت عليه ، يقولون الله أكبر ، سبحان الله ، الله أكبر . تاريخ خليفة (ص 198) بإسناد صحيح .
ثم إن أهل الفتنة أخذوا يرشقون جمل أم المؤمنين بالنبال و علي يصرخ فيهم أن كفوا عن الجمل ، لكنهم لا يطيعونه فصار الجمل كالقنفذ من كثرة النبال التي علقت به . تاريخ الطبري (4/513 ، 533 ) من طريق سيف بن عمر .
و يقدم الأشتر نحو الجمل فوقف له ابن الزبير فتقاتلا ، و لهذا شاهد من حديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( 11/108) و ( 15/257) بإسناد رجاله ثقاة : أن الأشتر و ابن الزبير التقيا فقال ابن الزبير : فما ضربته ضربة حتى ضربني خمساً أو ستاً ، ثم قال : فألقاني برجلي ثم قال : والله لولا قرابتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت منك عضواً مع صاحبه ، قال : و قالت عائشة : واثكل أسماء ، قال : فلما كان بعد أعطت الذي بشرها به أنه حي عشرة آلاف .
أما قصة صراع ابن الزبير مع الأشتر و قول ابن الزبير اقتلوني و مالكاً ، تعارضها الروايات الصحيحة ، فقد أخرج الطبري (4/520) بسند صحيح عن علقمة أن الأشتر لقي ابن الزبير في الجمل فقال : فما رضيت بشدة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه فصرعته . قلنا فهو القائل اقتلوني و مالكاً ؟ قال : لا ، ما تركته و في نفسي منه شيء ، ذاك عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، لقيني فاختلفنا ضربتين ، فصرعني و صرعته ، فجعل يقول اقتلوني و مالكاً ، و لا يعلمون من مالك فلو يعلمون لقتلوني . و أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (15/228) .
هنا وصل القعقاع إلى الجمل فخاف على أم المؤمنين أن تصاب فبدأ ينادي بالانسحاب فأخذ الجمل محمد بن طلحة بن عبيد الله فقتل رضي الله عنه فأخذ القعقاع الجمل و سحبه خارج المعركة .
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (15/285) بسند صحيح أن عبد الله بن بديل قال لعائشة : يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلتُ ما تأمريني ، فقلتِ الزم علياً ؟ فسكتت فقال : اعقروا الجمل فعقروه قال : فنزلت أنا و أخوها محمد و احتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي علي ، فأمر به علي فأدخل في بيت عبد الله بن بديل . و أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
هنا علي رضي الله عنه أصدر الأوامر بأن لا تلحقوا هارباً و لا تأخذوا سبياً فثار أهل الفتنة و قالوا : تحل لنا دمائهم و لا تحل لنا نسائهم و أموالهم ؟ فقال علي : أيكم يريد عائشة في سهمه ، فسكتوا ، فنادى لا تقتلوا جريحاً و لا تقتلوا مدبراً ، و من أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن .البيهقي في السنن الكبرى (8/182) و ابن أبي شيبة في المصنف (15/257) و (15/286) بإسناد صحيح .
و أخرج الشافعي في الأم (4/308) من رواية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : دخلت على مروان بن الحكم ، فقال : ما رأيت أحداً أكرم من أبيك ، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى مناديه لا يقتل مدبراً و لا يذفف على جريح . و أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
و كان علي رضي الله عنه يطوف على القتلى و هم يدفنون ، ثم سار حتى دخل البصرة فمر على طلحة
و رآه مقتولاً فجعل يمسح التراب عن وجهه و يقول : عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجندلاً تحت نجوم السماء ، ثم قال : إلى الله أشكو عجري و بجري - أي همومي وأحزاني - و بكى عليه و على أصحابه . تاريخ دمشق (25/115) و أسد الغابة لابن الأثير (3/88-89) .
بعدها ذهب إلى بيت عبد الله بن بديل الخزاعي لزيارة عائشة و الاطمئنان عليها فقال لها : غفر الله لكِ ، قالت : ولك ما أردت إلا الإصلاح بين الناس . شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/206) . و نقل الزهري في المغازي (ص154) قولها : إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني ، و لم أحسب أن يكون بين الناس قتال ، و لو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبداً . و هذا هو الصحيح بخلاف من قال بأن عائشة نزلت في بيت عبد الله بن خلف الخزاعي .
ثم قام علي بتجهيز عائشة و إرسالها إلى مكة معززة مكرمة ، و هذا الفعل من علي رضي الله عنه يعد امتثالاً لما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أخرج الإمام أحمد في المسند (6/393) بسند حسن من حديث أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : إنه سيكون بينك و بين عائشة أمر ، قال : فأنا أشقاهم يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها .
و أخرج الحاكم في المستدرك (3/119) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين ، فضحكت عائشة رضي الله عنها فقال : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت ، ثم التفت إلى علي فقال : إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها .
و كان خروج عائشة رضي الله عنها يوم الجمل يعتبر زلة عن قصد حسن و هو الإصلاح ، و قد ندمت على ذلك ، و قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها زوجته في الجنة كما في المستدرك و قال عمار : والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، كما في الصحيح بهذا المعنى . و بهذين الدليلين و بوصف الله لها في القرآن بأنها طيبة ، تنقطع ألسنة الروافض الطاعنين في صحابة رسول الله و منهم أم المؤمنين رضي الله عنها . الصحيح المسند من دلائل النبوة للشيخ مقبل الوادعي (ص417) في الهامش .
و كانت رضي الله عنها إذا قرأت { و قرن في بيوتكن }[ الأحزاب/33] بكت حتى يبتل خمارها ، و كانت حينما تذكر الجمل تقول : وددت أني كنت جلست كما جلس أصحابي ، و في رواية ابن أبي شيبة : وددت أني كنت غصناً رطباً و لم أسر مسيري هذا . سير أعلام النبلاء للذهبي (2/177) و مجمع الزوائد للهيثمي (7/238) و ابن أبي شيبة في المصنف (15/281) .
و العقل يقطع بأنه لامناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ،
و لاشك أن عائشة رضي الله عنها هي المخطئة ؛ لأسباب كثيرة و أدلة واضحة ، منها ندمها على خروجها ، و ذلك هو اللائق بفضلها و كمالها ، و ذلك مما يدل على أن خطأها من الخطأ المغفور ، بل المأجور .
قال الإمام الزيلعي في نصب الراية : و قد أظهرت عائشة الندم كما أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب عن ابن أبي عتيق - عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - قال : قالت عائشة لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري ؟ قال : رأيت رجلاً غلب عليك – يعني ابن الزبير – فقالت : أما والله لو نهيتني ما خرجت . قال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة : و لهذا الأثر طرق أخرى ، فقال الذهبي في السير : عن قيس قال : قالت عائشة ، و كانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها فقالت : إني قد أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثاً ، ادفنوني مع أزواجه ، فدفنت بالبقيع رضي الله عنها . قلت – أي الذهبي - : تعني بالحدث مسيرها يوم الجمل ، فإنها ندمت ندامة كلية و تابت من ذلك ، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة ، قاصدة للخير ، كما اجتهد طلحة و الزبير و جماعة من كبار الصحابة رضي الله عن الجميع . انظر : السلسلة الصحيحة (1/854-855) .
يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة ( 4/316-317 ، 321-322 ) و (6/208 ، 363 ) : إن عائشة لم تخرج للقتال ، و إنما خرجت بقصد الإصلاح بين الناس و ظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها ، و هكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة و الزبير رضي الله عنهم أجمعين .
و يقول الإمام القرطبي في تفسيره (8/321-322) في تفسير سورة الحجرات ما نصه : لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه و أرادوا الله عز وجل .. هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض - يشير إلى حديث أبي هريرة عند مسلم (4/1880) و نصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة والزبير ، فتحركت الصخرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد . والترمذي (5/644) و انظر : كتاب فضائل الصحابة للنسائي (ص113) بتحقيق فاروق حمادة ، و ابن ماجة في فضائل طلحة ( 1/46) و الأصفهاني في الإمامة ( ص371-372) - ، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً .. و مما يدل على ذلك ما قد صح و انتشر من إخبار عليّ بأن قاتل الزبير في النار ، و قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بشر قاتل ابن صفية بالنار – تقدم تخريجه - ، و إذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة و الزبير غير عاصيين و لا آثمين بالقتال - أي أنهما معذوران باجتهادهما - لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة شهيد ، و لم يخبر أن قاتل الزبير في النار، و إذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم ، و البراءة منهم ، و تفسيقهم و إبطال فضائلهم و جهادهم ، رضي الله تعالى عنهم .
و على ذلك إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يجوز عليهم الخطأ كما يجوز على كل بشر ، فحينئذ نستطيع أن نقبل ما يحدث في تصرفاتهم من أخطاء غير مقصودة ، و إنما وقعت نتيجة اجتهاد لم يوفقوا فيه إلى الصواب ، لكنهم مثابون على الإخلاص في اجتهادهم إن شاء الله .
و لقد أخطأ من قال بأن الباعث لخروج طلحة والزبير هو ما كانا عليه من الطمع في الخلافة والتآمر على الناس بذلك .
فينفي ابن شبّة في كتابه أخبار البصرة هذا الزعم بقوله : إن أحداً لم ينقل أن عائشة و من معها نازعوا علياً في الخلافة ، و لا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة ، و إنما أنكروا على علي منعه - أي تأخيره - من قتل قتلة عثمان و ترك الاقتصاص منهم . أورده الحافظ في الفتح (13/60-61) .
و يقول ابن حزم في الفصل في الملل (4/238-239) : فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها ، أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي و لا خلافاً عليه ، و لا نقضاً لبيعته و لو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته ، و هذا ما لا يشك فيه أحد و لا ينكره أحد ، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً .
وقد كان التقاء الفريقين في الجمل يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ست و ثلاثين ، تاريخ خليفة (ص184-185) - و هي أصح الروايات في تحديد تاريخ وقعة الجمل - و كان القتال بعد صلاة الظهر فما غربت الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه . أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
و أما عن عدد قتلى معركة الجمل فقد بالغ المؤرخون في ذكرهم فمن مقلل و من مكثر على حسب ميل الناس و أهوائهم ؛ لكن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل فقد كان ضئيلاً جداً للأسباب التالية :-
1 - قصر مدة القتال ، حيث أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن القتال نشب بعد الظهر ، فما غربت
الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه .
2 - الطبيعة الدفاعية للقتال ، حيث كان كل فريق يدافع عن نفسه ليس إلا .
3 - تحرج كل فريق من القتال لما يعلمون من عظم حرمة دم المسلم .
4 - قياساً بعدد شهداء المسلمين في معركة اليرموك - ثلاثة آلاف شهيد ، تاريخ الطبري (3/402) - و معركة القادسية - ثمانية آلاف و خمسمائة شهيد ، تاريخ الطبري (3/564) - و هي التي استمرت عدة أيام ، فإن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل يعد ضئيلاً جداً . هذا مع الأخذ بالاعتبار شراسة تلك المعارك و حدتها لكونها من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمم .
5 - أورد خليفة بن خياط في تاريخه (ص187-190) بياناً بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل ، فكانوا قريباً من المائة . فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين و ليس مائة ، فإن هذا يعني أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين . و هذا هو الراجح للأسباب و الحيثيات السابقة و الله أعلم بالصواب . أنظر حول هذا الموضوع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص214-215) .
و هذا العدد مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه : ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها و عن يسارها قتلى كثير ، ثم تنجو بعد ما كادت . السلسلة الصحيحة (1/853 ) .
حال ابن سبأ و مصيره بعد هذه الأحداث .
تعددت الروايات في ذكر مصير عبد الله بن سبأ ، هل أحرق مع أصحابه ؟
أم أنه نفي مع من نفي إلى سباط في المدائن ؟
أقول : الراجح والله أعلم و هو الذي أعتقده ، أنه نفي إلى سباط ، و مات هناك ؛ و الأدلة على ذلك كثيرة جداً ، و هاك مختصرها :-
أولاً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، دون ذكر لحرق ابن سبأ معهم :-
إن خبر إحراق علي بن أبي طالب رضي الله عنه لطائفة السبئية ، تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح و السنن و المساند . أنظر خبره معهم عند البخاري في صحيحه (4/21) ، (8/50) ، و أبو داود في سننه (4/520) ، و النسائي (7/104) ، و الترمذي (4/59 ) و الحاكم في المستدرك (3/538-539) و صححه الألباني في صحيح أبي داود (3/822) .
فقد ذكر الإمام البخاري عن عكرمة مولى ابن عباس قال أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله ) و لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ) . البخاري مع الفتح (12/279) .
ذكر الجُوزَجَاني في أحوال الرجال ( ص37-38 ) ، و ابن حجر في الفتح ( 12/270) بإسناد حسن : أن السبئية غلت في الكفر ، فزعمت أن علياً إلهاً ، حتى حرّقهم بالنار إنكاراً عليهم ، و استبصاراً في أمرهم حين يقول :
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري و دعوت قنبرا .
يقول ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص78-79) ، و في المعارف (ص 267) : إن عبد الله بن سبأ ادّعى الربوبية لعلي ، فأحرق علي أصحابه بالنار .
قال ابن حجر في لسان الميزان (3/389-390) : عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ... ، و يقول عن طائفته : وله أتباع يقال لهم السبئية ، معتقدون الألوهية في علي بن أبي طالب ، و قد أحرقهم علي بالنار في خلافته .
يقول ابن حزم في الفصل في الملل والنحل (4/186) : و القسم الثاني من الفرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ ... إلى أن قال : فقالوا مشافهة أنت هو ، فقال لهم و من هو ؟ قال : أنت الله ، فاستعظم الأمر و أمر بنار فأججت و أحرقهم بالنار .
و يؤكد الفخر الرازي كغيره من أصحاب المقالات والفرق خبر إحراق علي لطائفة من السبئية . انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ( ص 57 ) .
ثانياً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، و أحرق ابن سبأ معهم :-
ذكر المامقاني في تنقيح المقال (2/184) : أن علياً حرّق عبد الله بن سبأ في جملة سبعين رجلاً ادعوا فيه الإلهية والنبوة .
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/426) : أحسب أن علياً حرّقه – يقصد عبد الله بن سبأ – بالنار . و هو هنا لا يجزم بذلك بل وضعه موضع الشك .
أما الكشي فقد جزم بأن علياً رضي الله عنه قد أحرق عبد الله بن سبأ مع جملة أصحابه ، و قد نقل أكثر من رواية تنص على أن علياً حينما بلغه غلو ابن سبأ و دعواه الألوهية فيه ، دعاه و سأله فأقر بذلك ، و طلب إليه أن يرجع عن ذلك ، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار . انظر هذا النص عند الناشئ الأكبر في مسائل الإمامة (ص 22 ) .
ثالثاً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، ومن ثم نفى ابن سبأ إلى سباط .
ذكر ابن تيمية في منهاج السنة ( 1/23 ، 30 ) و (3/459) و ابن عساكر في تاريخ دمشق (29/10) و الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء و البدع للملطي ( ص 29- 30 ) : أن علياً حرّق جماعة من غلاة الشيعة و نفى بعضهم ، و من المنفيين عبد الله بن سبأ .
و ذكر البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص223 ) : أن السبئية أظهروا بدعتهم في زمان علي رضي الله عنه فأحرق قوماً منهم و نفى ابن سبأ إلى سباط المدائن إذ نهاه ابن عباس رضي الله عنه عن قتله حينما بلغه غلوه فيه و أشار عليه بنفيه إلى المدائن حتى لا تختلف عليه أصحابه ، لاسيما و هو عازم على العودة إلى قتال أهل الشام .
و قال الشهرستاني في الملل والنحل (1/155) : السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي كرم الله وجهه : أنت أنت ، يعني الإله ، فنفاه إلى المدائن .
و قال الجوزجاني في أحوال الرجال ( ص 38 ) : أن من مزاعم عبد الله بن سبأ ادعاءه أن القرآن جزء من تسعة أجزاء ، و علمه عند علي ، و أن علياً نفاه بعدما كان هم به .
والراجح في هذه المسألة أن ابن سبأ لم يحرق بل نفي إلى سباط في المدائن ، كما قال بذلك الكثير من أهل العلم ، والأدلة على كونه نفي ولم يحرق ، ما ذكرته قبل قليل من كونه لم يحرق بل نفي إلى سباط ، و ما سيأتي من كون ابن سبأ له ظهور بعد مقتل علي رضي الله عنه ، و يكفي الباحث أن يقف على هذه العبارات التي تجدها في كثير من المصادر ليتبين له أن ابن سبأ لم يحرق مع طائفته :-
قال ابن سبأ لمن جاءه بنعي علي رضي الله عنه : ( لو أتيتنا بدماغه في سبعين صرة ما صدقناك ، و لعلمنا أنه لم يمت ، و إنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه . مسائل الإمامة للناشئ الأكبر (ص 22 ) و كذلك أنظر إلى دلالة العبارة في الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 234) ، و البدء والتاريخ لابن طاهر المقدسي (5/129) ، والمقالات والفرق للقمي (ص20-21) والبيان والتبيين للجاحظ (3/81) و المجروحين لابن حبان (1/298) و تثبيت دلائل النبوة للهمذاني (2/549) و فرق الشيعة للنوبختي (ص 43) .
ذكر الصفدي في ترجمة ابن سبأ : ابن سبأ رأس الطائفة السبئية ... ، قال لعلي رضي الله عنه أنت الإله ، فنفاه إلى المدائن ، فلما قُتل علي ، زعم ابن سبأ أنه لم يمت لأن فيه جزءاً إلهياً و أنّ ابن ملجم قتل شيطاناً تصوّر بصورة علي ، و أن علياً في السحاب ، و الرعد صوته و البرق سوطه ، و أنه سينزل إلى الأرض . الوافي بالوفيات (17/190 ) .
و جاء في الفرق الإسلامية للكرماني (ص 34 ) : أن علياً رضي الله عنه لما قتل زعم عبد الله بن سبأ أنه لم يمت وأن فيه الجزء الإلهي .
و يذكر أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/85) ، عبد الله بن سبأ و طائفته من ضمن أصناف الغلاة ، إذ يزعمون أنّ علياً لم يمت و أنه سيرجع إلى الدنيا فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
و هذا الذي ذكرت لا يعني أنه لم يقتل بيد غيره ، لكن و حسب علمي القاصر واطلاعي على الكثير من الكتب التي تحدثت عن هذا الموضوع ، فإنه لم يرد فيها ذكر شيء من هذا القبيل .
و لكن : هذا لا يمنع بأن جميع من شارك أو أعان في قتل عثمان رضي الله عنه قد قتل أو أصابه الله بعقاب من عنده ، و إن الله عز وجل لم يهمل الظالمين بل أذلهم و أخزاهم و انتقم منهم فلم ينج منهم أحد ، و هاكم بعض الأمثلة على ذلك :-
روى خليفة في تاريخه (ص175) . بإسناد صحيح : أن أول قطرة قطرت من دمه - أي عثمان - على المصحف ، ما حكت .
و أخرج أحمد بإسناد صحيح عن عَمْرة بنت أرطأة العدوية قالت :خرجت مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة ، فمررنا بالمدينة و رأينا المصحف الذي قتل و هو في حجره ، فكانت أول قطرة من دمه على هذه الآية { فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم } قالت عمرة : فما مات منهم رجل سوياً . انظر : فضائل الصحابة (1/501) بإسناد صحيح . و أخرجه أيضاً في الزهد (ص127-128) .
روى ابن عساكر في تاريخه (39/446-447) عن ابن سيرين قال : كنت أطوف بالكعبة فإذا رجل يقول : اللهم اغفر لي و ما أظن أن تغفر لي ! قلت : يا عبد الله ! ما سمعت أحداً يقول ما تقول ! قال : كنت أعطيت الله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته ، فلما قتل و وضع على سريره في البيت ، و الناس يجيئون فيصلون عليه فدخلت كأني أصلي عليه ، فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه فلطمت وجهه و سجيته و قد يبست يميني ، قال محمد بن سيرين : رأيتها يابسة كأنها عود .
و عن قتادة أن رجلاً من بني سدوس قال : كنت فيمن قتل عثمان فما منهم رجل إلا أصابته عقوبة غيري ، قال قتادة : فما مات حتى عمي . أنساب الأشراف للبلاذري (5/102) .
و روى مبارك بن فضالة قال : سمعت الحسن البصري يقول : ما علمت أحداً أشرِك في دم عثمان رضي الله
عنه و لا أعان عليه إلا قُتل . و في رواية أخرى : لم يدع الله الفسقة - قتلة عثمان - حتى قتلهم بكل أرض . تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة (4/1252) .
دور هذا اليهودي في نشأة الرافضة ، وسيكون الحديث فيها عن الجانب الديني الذي قام به عبد الله بن سبأ في تلك الفتنة لإبعاد المسلمين عن دينهم .
قام هذا اليهودي الخبيث بدعوة من اغتر به من عوام المسلمين إلى بعض المبادئ اليهودية وغلف دعوته هذه بالتظاهر بحب آل البيت والدعوة إلى ولايتهم والبراءة من أعدائهم ، فاغتر به جماعة ممن لم يتمكن الإسلام في قلوبهم من الأعراب و حديثي العهد بالإسلام ، حتى غدوا يكونون فرقة دينية تخالف في عقيدتها العقيدة الإسلامية وتستمد أفكارها ومبادئها من الديانة اليهودية .
فانتسبت هذه الفرقة إلى مؤسسها ومبتدعها ابن سبأ ، فأطلق عليها السبأية ومن السبأية استمدت الرافضة عقيدتها وأصولها فتأثرت بتلك المبادئ اليهودية المغلفة التي دعا إليها ابن سبأ .
ولهذا اشتهر بن العلماء أن عبد الله بن سبأ هو أول من ابتدع الرفض وأن الرفض مأخوذ من اليهودية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/483) : و قد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية و طلب أن يفسد الإسلام ، كما فعل بولص النصراني – الذي كان يهودياً – في إفساد دين النصارى .
و قال في موضع آخر من الفتاوى (4/428) : إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً ، و دس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان ، و لهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة .
ويقول أيضاً في موضع آخر من الفتاوى (4/435) : وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق ، وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه ، وادعى العصمة له و لهذا لما كان مبدأه من النفاق قال بعض السلف : حب أبي بكر وعمر إيمان و بغضهما نفاق ، و حب بني هاشم إيمان و بغضهم نفاق .
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (ص 578) : إن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق ، قصد إبطال دين الإسلام والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر العلماء ، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلام ، أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره و خبثه ، كما فعل بولص بدين النصرانية ، فأظهر التنسك ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في الفتنة عثمان و قتله .
و قد أكدت كذلك الدراسات الحديثة أن أصل الرفض يهودي و واضعه يهودي ماكر أراد أن يفسد على المسلمين عقيدتهم وينحرف بهم عن الدين الصحيح ، يقول عبد الله القصيمي في كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية (1/11) بعد أن تحدث عن ظاهرة الغلو في علي بن أبي طالب : أما واضع بذور هذه الضلالة ومتولي كبرها عبد الله بن سبأ ، فطلبه علي ليوقع به أشد العذاب ولكنه كان أحذر من الغراب ، فهرب وترك البلاد و ما كان هروبه وضعاً لأوزار هذه الفتنة المدمرة وتسليماً بالهزيمة ، بل كان هروباً بهذه الآراء ضناً عليها بالقبر والقتل ليضل بها المسلمين ويفتن بها المفتونين وتبقى عاراً و ناراً إلى يوم الدين ، تطايرت دعاوى هذا الرجل ومبتدعاته في كل جانب ، و رن صداها في أركان المملكة الإسلامية رنيناً مراً مزعجاً واهتزت لها قلوب ومسامع و طربت لها قلوب و مسامع ، و رددت صداها أفواه خلقت لهذا ، و رددتها أفواه أخرى ، و طال الترديد والترجيع حتى نفذت إلى قلوب رخوة لا تتماسك فحلتها حلول العقيدة ، ثم تفاعلت حتى صارت عقيدة ثابتة تراق الدماء في سبيلها و يعادى الأهل والصحب غضباً لها و صارت فيما بعد معروفة بالمذهب الشيعي والعقيدة الشيعية .
أما إحسان إلهي ظهير رحمه الله فيؤكد بعد طول بحث في كتب القوم والذي أكسبه مزيداً من الخبرة بالرافضة وعقائدهم أن عقيدتهم قد بنيت على أسس يهودية بواسطة عبد الله بن سبأ . فيقول : وأما دين الإمامية و مذهب الاثنى عشرية ليس إلا مبني على تلك الأسس التي وضعتها اليهودية الأثيمة بواسطة عبد الله بن سبأ الصنعاني اليمني الشهير بابن السوداء . انظر : الشيعة والسنة ( ص 29) .
فتأكد بهذه النقولات التي جاءت في كتب أهل السنة أن أصل الرفض إنما أحدثه عبد الله بن سبأ اليهودي ، وأن الرافضة ليست من الإسلام في شيء .
وقد اعترف بذلك كبار علماء الشيعة ومؤرخوهم ، فها هو الكشي - أحد كبار علماء التراجم عندهم في القرن الرابع ( ت340هـ ) – ينقل هذا النص عن بعض علمائهم فيقول : ذكر بعض أهل العلم أن عبدالله بن سبأ كان يهودياً فأسلم و والى علياً عليه السلام وكان يقول و هو على يهوديته في يوشع بن نون وضي موسى بالغلو ، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي عليه السلام مثل ذلك ، و كان أول من أشهر القول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه ، و كاشف مخالفيه وأكفرهم ، فمن ههنا قال من خالف الشيعة أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية . انظر : رجال الكشي (ص 71 ) .
و هذا النص مشهور عند علماء الرافضة و قد تناقله علماؤهم و جاء ذكره في أكثر من كتاب من كتبهم المعتمدة والموثقة .
فقد ذكره الأشعري القمي ( ت301هـ ) في المقالات والفرق (ص 20 ) ، حين يقول : فمن هاهنا قال من خالف الشيعة : إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية .
و ذكره النوبختي ( ت 310هـ ) في فرق الشيعة ( ص 44 ) ، حين يقول : فمن هنا قال من خالف الشيعة : إن أصل الرفض مأخوذ من اليهود .
و ذكره المامقاني ( ت 1351هـ ) في تنقيح المقال (2 /184) .
فهؤلاء كبار مؤرخي الرافضة و محققيهم يعترفون بيهودية ابن سبأ وأنه كان يقول بوصية موسى بيوشع في يهوديته فقال بهذه العقيدة في إسلامه في علي بن أبي طالب وأنه وصي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أول من نادى بإمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتبرأ من مخالفيه ، ثم يقرون بأنه إنما نسبت الرافضة لليهودية لذلك .
ففي هذا الاعتراف الذي نسجله على كبار علماء الرافضة أعظم دليل على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية وهو ملزم لكل من يشكك في هذه الحقيقة من علماء الرافضة المعاصرين ومن تأثر بأقوالهم من الكتاب المحدثين .
وكما دلت كتب السنة والشيعة على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية بواسطة عبد الله بن سبأ ، فكذلك كتب المستشرقين تشهد بذلك .
يقول المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن : ومنشأ السبأية يرجع إلى زمان علي والحسن وتنسب إلى عبد الله بن سبأ وكما يتضح من اسمه الغريب فإنه كان أيضاً يمنياً ، والواقع أنه من العاصمة صنعاء ، و يقال أيضاً إنه كان يهودياً ، و هذا يقود إلى القول بأصل يهودي لفرقة السبأية ، و المسلمون يطلقون اليهودي على ما ليس في الواقع ، بيد أن يلوح أن مذهب الشيعة الذي ينسب إلى عبد الله بن سبأ أنه مؤسسه إنما يرجع إلى اليهود أقرب من أن يرجع إلى الإيرانيين . الخوارج والشيعة (ص 170-171) .
أما المستشرق المجري أجناس جولد تسيهر ، فهو يرى أن فكرة المهدي و عقيدة الرجعة عند الرافضة قد تأثرت بالديانة اليهودية والنصرانية ، و أن الغلو في علي إنما صاغه عبد الله بن سبأ اليهودي ، فيقول : إن الفكرة المهدية التي أدت إلى نظرية الإمامة والتي تجلت معالمها في الاعتقاد بالرجعة ينبغي أن نرجعها كلها – كما رأينا – إلى المؤثرات اليهودية والمسيحية ، كما أن الإغراق في تأليه علي الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد الله بن سبأ ، حدث ذلك في بيئة سامية عذراء لم تكن قد تسربت إليها بعد الأفكار الآرية . انظر : العقيدة والشريعة في الإسلام ( ص 205 ) .
فهذه أقوال العلماء من سنة وشيعة و مستشرقين ، كلها تؤكد أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ، وأن واضعه و مبتدعه في الإسلام هو عبد الله بن سبأ اليهودي ، و قد دل أيضاً على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ، و لهذا عدد من الأدلة :-
الأول : أن عقائد الرافضة التي انفردوا بها عن سائر الفرق الإسلامية كعقيدة الوصية والرجعة والبداءة والتقية و ما يدعونه في أئمتهم من الغلو ليس لها أصل في الإسلام ، و لا يوجد نص واحد لا من كتاب ولا من سنة يدل على هذه العقائد ، بل إن الكتاب والسنة وإجماع الأمة تشهد ببطلان هذه العقائد وبراءة الإسلام منها .
أما ما يستدل به الرافضة لصحة هذه العقائد من أدلة لا يخلو من حالين ؛ إما أن يكون هذا الدليل الذي يستدلون به صحيحاً و لكن لا حاجة لهم فيه ، وإما أن يكون موضوعاً لا يصح الاستدلال به ، و هذه حال غالب أدلتهم ، فإنهم لما لم يجدوا ما يستدلون به من الشرع لعقائدهم أخذوا يضعون الروايات على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى لسان علي بن أبي طالب وبنيه ليحتجوا بها على ما ذهبوا إليه من عقائد فاسدة ، و لهذا اشتهر بين أهل العلم أن الرافضة أكذب الفرق المنتسبة للإسلام ، فهم لا يروون عنهم و حذوا الناس من كذبهم .
الثاني : أن عقائد الرافضة التي انفردوا بها عن سائر الطوائف الإسلامية قد انتقلت إليهم من اليهودية ، و قد تتبعت هذه العقائد فوجدتها لا تخلوا من : إما أن تكون عقيدة يهودية خالصة ، وإما أن يكون لها أصل عند اليهود .
الثالث : تصريح العلماء من سنة و شيعة بأن أول من أحدث الغلو في علي رضي الله عنه وأحدث عقيدتي الوصية والرجعة هو عبد الله بن سبأ اليهودي ، و قد نقلنا سابقاً النص الذي ذكره الأشعري القمي والكشي والنوبختي والمامقاني و فيه اعترافهم بأن عبد الله بن سبأ أول من أحدث القول بالوصية لعلي بن أبي طالب والقول بفرض إمامته ، وأظهر فيه البراءة من مخالفيه .
يذكر الشهرستاني في الملل والنحل (1/174) ، أن ابن سبأ أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه ، و منه انشعبت أصناف الغلاة ، و يتحدث عن السبأية فيقول : و هم أول من قال بالتوقف والغيبة والرجعة و قالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه .
و يذكر المقريزي في الخطط (2/356-357) : أن ابن سبأ أحدث في زمن علي رضي الله عنه القول بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي ، وأحدث القول برجعته بعد موته إلى الحياة الدنيا .
ونحن إذا عرفنا ما لهذه العقائد – التي أكد العلماء أن أول من أحدثها في الإسلام ابن سبأ اليهودي – من ثقل في ميزان عقيدة الرافضة بل إنها تعد الأساس الذي أنبتت عليه عقائد الرافضة الأخرى ، ندرك دور اليهود الكبير في نشأة الرافضة .
رابعاً : تصريح عبد الله بن سبأ نفسه بأنه أخذ عقيدة الوصية من التوراة ، فقد نقل البغدادي في الفرق بين الفرق (ص 235) عن الشعبي ، أن ابن السوداء ذكر لأهل الكوفة : أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً وأن علياً رضي الله عنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه خير الأوصياء و كما أن محمداً خير الأنبياء .
وإذا أجرينا مقارنة سريعة بين بعض معتقدات الشيعة ، نرى أنها توافق بعض معتقدات السبئية ، كما توضحها المقارنة التالية :-
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
1 – الرجعة : أي رجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، و هي فكرة مأخوذة من العهد القديم – المحرّف - . انظر : إصحاح (4) فقرة : 5 .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
1 – جاء في (أوائل المقالات في المذاهب المختارات) لشيخهم المفيد (ص 51) : واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، وإن كان بينهم في معنى الرجعة خلاف .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
2 – الوصية : أي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بالخلافة من بعده ، و هي فكرة مأخوذة من العهد القديم – المحرّف -. انظر : إصحاح (34) فقرة : 9 .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
2 – جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/294) : فكان علي عليه السلام و كان حقه الوصية التي جعلت له ، والاسم الأكبر ، و ميراث العلم ، وآثار علم النبوة .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
3 – الألوهية : ومن لوازمها علم علي رضي الله عنه للغيب . راجع الضعفاء والمتروكين لابن حبان (3/
و ميزان الاعتدال للذهبي (4/161) و المقالات والفرق للقمي (ص 21) . حيث ذكروا جميعاً ما تعمه السبئية من أن علياً رضي الله عنه قادر على إحياء الموتى وأنه كان راضياً عن ألوهيته و لكنه حرقهم بالنار لأنهم أفشوا السر ، ثم أحياهم بعد ذلك ، و أنه يعلم الغيب .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
3 – من لوازم الألوهية كما جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/258) : إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم . و قد عقد بعد ذلك باباً عنوانه : ( أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ) . كما يقول زعيمهم الخميني في الحكومة الإسلامية (ص 47) : إن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية ، وخلافة تكوينية ، تخضع لولايتها و سيطرتها جميع ذرات هذا الكون .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
4 – علم علي رضي الله عنه لتسعة أعشار القرآن الكريم ، والتي كتمها الرسول صلى الله عليه وسلم ! راجع : عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان العودة (ص 207) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
4 – جاء في الأصول من الكافي (1/239) رواية منسوبة إلى جعفر الصادق يقول فيها : وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، قال – أي الراوي - : قلت : وما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال : مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
5 – سب الصحابة ، ولاسيما الخلفاء الثلاثة الذين تولوا الخلافة قبل علي رضي الله عنه ، و هم أبو بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم . راجع فرق الشيعة للنوبختي (ص 43-44 ) و المقالات والفرق للقمي ( ص 20 ) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
5 – جاء في الأصول من الكافي (1/32) : عندما يزعمونه من قول الله تعالى {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} – لاحظ أن هذا النص دمج بين آيتين مختلفتين من القرآن الكريم من سورة[النساء /137] و [آل عمران/90] - : إنها نزلت في فلان وفلان و فلان ، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر ، و كفروا حيث عرضت عليهم الولاية . – و المقصود من فلان وفلان وفلان : أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كما أبان ذلك شارح الكافي ! نقلاً عن الشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير ( ص 42) . وجاء عن المفيد في أوائل المقالات في المذاهب والمختارات (ص 48 ) : واتفقت الإمامية والزيدية والخوارج على أن الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضلال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنهم بذلك في النار مخلدون ! – و بعد هذا يظهر من يقول أن الزيدية هم أقرب فرق الشيعة لأهل السنة !! - .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
6 – البداء : و هو نشأة رأي جديد لم يك موجوداً من قبل ، وهو من معتقدان السبئية ، الذي يلزم منه ظهور ما كان خافياً على الله . راجع : التنبيه والرد للملطي (ص19) والفرق بين الفرق ( ص 36 ) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
6 – جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/146-148) بعد أن عقد فيه كتاب التوحيد باب البداء : لو يعلم الناس ما في القول بالبدأ من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه .
و بعد : فقد دلت هذه الأدلة مضافاً إلى ما أوردناه من النقولات السابقة عن بعض العلماء من سنة وشيعة ، و شهادة بعض المستشرقين من إثبات دور عبد الله بن سبأ في نشأة الرافضة وإثبات أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية .
و في ختام هذه المقالة نكون قد وصلنا إلى نهاية سلسلة حلقات عبد الله بن سبأ ، و إلى أن نلتقي أستودعكم الله والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته ، و الحمد لله على فضلة و توفيقه .
وتقبلوا تحيات : أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..