[size=21]***************
الوجه الثانى: أن "التطهير" و"إذهاب الرجس" ورد فى غير أهل البيت، كما فى قوله تعالى: {وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا
عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
(102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم
بِهَا} [التوبه: 102-103].
وهؤلاء القوم ارتكبوا المعاصي، فلو كان "التطهير" يعني العصمة من الذنب لما أطلق على هؤلاء المذنبين الذين {اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} وقد وصف هؤلاء بالتزكية إضافة إلى التطهير {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}
والتزكية أعلى وقد وصف بها هؤلاء المذنبون ومع ذلك لم يكونوا معصومين ولم
يوصف بها أولئك الذين يقال عنهم " أئمة معصومون " ، وإنما اكتفى بلفظ "
التطهير " فقط، وهو أقل منزلة من حيث المعنى فكيف صاروا به - وهو أقل -
معصومين ؟!!.
وقال جل وعلا عن رواد مسجد قباء من الصحابة الأطهار: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] ولم يكن هؤلاء معصومين من الذنوب بالاتفاق .
وقال عن النساء: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ}
[البقرة: 222] وليس معنى اللفظ: ولا تجامعهون حتى يُعصمن. فإذا عُصمن
فجامعوهن! ولو كان لفظ (التطهير) معناه العصمة، لكان هذا هو تفسير الآية،
ولكان في الإسلام لا يجوز غير جماع المعصومات!
ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ولا علاقة لهؤلاء المتطهرين بالعصمة؛ بل عم جميع المسلمين فقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] . واللفظ {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} واحد في الآيتين.
فلو كانت إرادة التطهير تعني (العصمة) لكان كل مسلمًا معصومًا!
وهكذا
سقط السند اللغوي لإمكانية تفسير الآية "بالعصمة" فضلا عن عصمة أشخاص
بعينهم، وأن القول بها بدلالة النص إنما هو ظن وشبهة، وليس نصاً صريحاً.
والظن لا يجوز دليلاً في أساسيات الدين، واتباع المتشابه ممنوع بنص القرآن الحكيم(1)، فسقط الاحتجاج بالآية على ذلك من الأساس.
ــــــــــــــ(1) بينت في مقدمة البحث طريقة القرآن في إثبات الأصول، ولعلي أفرده في موضوع "أصول الإستدلال على الأصول".
***************
الوجه الثالث: أن أهل الرجل زوجته بدليل اللغة والشرع والعرف والعقل ولا دليل آخر مع هذه الأربعة.
أما اللغة:
قال الخليل: أهل الرجل زَوْجُه. والتأهُّل التّزَوّج. وأهْل الرّجُل أخصُّ النّاسِ به. وأهل البيت: سُكّانه.
ومِن ذلك: أَهْلُ القُرَى: سُكَّانُها.
وتأهل: تزوج، ورجل آهل. وفي الحديث: " أنه أعطى العزب حظاً وأعطى الآهل حظين " . وآهلك الله في الجنة إيهالاً: زوجك ".
وقال الرَّاغِبُ وتَبِعه المُناويُّ :
أَهْلُ الرجُلِ في الأصل : مَن يَجمعُه وإيَّاهُم مَسْكَنٌ واحِدٌ ثمّ
تُجُوِّزَ به فقيلِ : أهلُ بَيْتِه : مَن يَجْمعُه وإيّاهُم نَسَبٌ.
فهذا دليل اللغة(1)، فلفظ "أهل البيت" يتضمن الزوجة أولاً، ثم من يشتمل عليه البيت من الأبناء والبنين والأب والأم وغيرهم ثانياً. ثم يتسع - من بعد - ليعم الأقارب ثالثاً.
دليل الشرع :
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29] ولم يكن معه ساعتها غير زوجه.
{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] وهذا قول سارة زوجة إبراهيم عليه السلام، فأجابتها الملائكة {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمةُُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 73].
حتى امرأة العزيز خاطبت زوجها فقالت: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا} [يوسف: 25] أي زوجتك.
وهذه عدة آيات عن لوط عليه السلام وإمرأته يدخلها تحت مسمى (الأهل) في كل المواضع التي ورد فيها إنجاؤهم وإلا لما استثناها منهم .
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83].
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: 57].
{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء: 170-171].
{قَالُواْ
يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ
بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ
إِلاَّ امْرَأَتَكَ} [هود: 81].
{قَالَ
إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا
لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ
الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32].
{لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33] فكرر الاستثناء مع أن الآيتين متقاربتان وفي سياق واحد .
{وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}
دليل العرف:
وإطلاق
لفظ (الأهل) والمراد منه الزوجة أمر متعارف عليه إلى اليوم: يقول الرجل
مثلا: ( جاءت معي أهلي ) يقصد زوجته والناس تفهم منه ذلك.
دليل العقل:
إذ
كل رجل إنما يبدأ بيته بزوجته وكل عائلة تبدأ بأب وأم أو رجل وامرأة هي
زوجته وهنا يصح اطلاق لفظ (الأهل) على الزوجة حتى قبل مجيء الأولاد وحتى لو
لم يكن عند الرجل أب أو أم أو أخوة . فالزوجة أول شخص في البيت يطلق عليه
اسم (الأهل) فهي أول أهل بيت الرجل أو أهل البيت .
ولذلك قيل للزوجة : (ربة البيت) فهي ليست أهله فحسب أو من أهل بيته وإنما هي ربة هذا البيت.
فالزوجة
إذن أهل الرجل ومن أهل بيته فبأي حق تخرج أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
من بيته ويقال إنهن لسن من أهله ؟ ! أومن أهل بيته ؟ ! فموسى زوجته
من أهله وإبراهيم زوجته من أهله وحتى لوط امرأته من أهله، بل كل رجال
الدنيا منذ خلقت وإلى أن تفنى زوجاتهم من أهل بيتهم . إلا رسول الله صلى
الله عليه وسلم الطاهر المطهر زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين بنص القرآن
لسن من أهله !!!!{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 36].
ــــــــــــــ
(1) انظرمادة "أهل" فى معجم مقاييس اللغة، أساس البلاغة، تاج العروس، ولسان العرب.
***************
الوجه الرابع: أن قوله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}
[الأحزاب: 33] جزء من آية لا يمكن بحال تجريدها منه، وعزلها عنه وإلا اختل
الكلام لفظاً ومعنى، والآية جاءت فى سياق كله حديث عن أزواج النبى صلى
الله عليه وسلم قبل ورود الآية وبعدها.
يبدأ السياق بقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ
سَرَاحًا جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ
أَجْرًا عَظِيمًا} ويستمر الكلام فى خطابه لنساء النبى صلى الله عليه وسلم، فيقول:
{يَا
نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ
يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرًا (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ
صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا
كَرِيمًا (31) يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء
إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي
قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى
وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ
مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا
خَبِيرًا} [الأحزاب: 28-34].
فكيف يقتطع جزء من آية تخاطب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم والآية ضمن آيات تخاطبهن ويُزعم أنها لا تخاطبهن؟!!
ثم تأمل كيف قال الرب جل وعلا : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ثم قال : {أَهْلَ الْبَيْتِ} ثم قال {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} ثم بعد عدة آيات يتكرر ذكر (البيت)، ولكن هذه المرة مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [53] وفي أخر هذه الآية قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.
والبيوت المذكورة في الآية الأخيرة ليست بيوتاً أخرى غير البيوت التي ذكرت في الآيات الأولى، وإنما هي بيوت واحدة محددة تضاف مرة إلى أزواجه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ}، ومرة تضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}.
ولا
شك أن هذه البيوت واحدة، فبيوت النبي صلى الله عليه وسلم هي بيوت أزواجه،
وبيوت أزواجه بيوته هو بلا فرق. وأهل هذا البيت هم النبي صلى الله عليه
وسلم وأزواجه.
فبأي حق نخرج هذه الأزواج الطاهرات الطيبات أمهات المؤمنين من (أهل بيت) رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
فإخراجهن من حكم الآية إسفاف وخروج عن العقل والعرف والذوق، ولا مسوغ له إلا التحكم بالكلام بغير ضابط، ولَيُّ أعناق النصوص بالهوى.
ثم
إن كل من يملك ذوقاً لغوياً عربياً يدرك بالفطرة أن دخول كلام أجنبي بين
ثنايا كلام مسوق لقصد معين ممتنع في كلام العقلاء. فكيف بكلام الله ؟!!
***************
الوجه الخامس:
أن سبب نزول الآيات أنه " لما فتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم
وكانت أرض النضير قبيل ذلك فيئا للنبي صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول
الله أن مثله مثل أحد من الرجال إذا وسع عليهم الرزق توسعوا فيه هم وعيالهم
فلم يكن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يسألنه توسعة قبل أن يفيء الله
عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم، فلما رأين النبي صلى
الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما
أفاء الله عليه من المال حسبن أنه يوسع في الإنفاق فصار بعضهن يستكثرنه من
النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أم المؤمنين: "لا تستكثري النبي ولا تراجعيه في شيء وسليني ما بدا لك".
ولكن
الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقاما عظيما فلا يتعلق قلبه بمتاع
الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة........ وقد علمت أن أرض قريظة قسمت على
المهاجرين بحكم سعد بن معاذ فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم
أمل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يكن كالمهاجرين فأراد الله
أن يعلمهن سيرة الصالحات في العيش وغيره. وقد روي أن بعضهن سألنه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات.
وهذا
مما يؤذن به وقع هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يطؤوها
وهي أرض بني النضير. وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس
وخاصة النساء أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبئ أزواجه بها
ويخيرهن عن السير عليها تبعا لحاله وبين أن يفارقهن"(1).
واستمرت الآيات تعالج هذا الموضوع الذي أثير في بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال تعالى:{...
وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيراً} [الأحزاب/33-34].
فالآية
تشمل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بدليل الشرع واللغة والعرف والعقل
وسبب النزول والسياق وغيرها من الأدلة التي قدمناه آنفا، فلو كانت الآية
نصا في العصمة لاستلزم ذلك عصمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان
ذلك منفيا بالاتفاق فلا دلالة في الآية إذن على عصمة أحد.
ــــــــــــــ
(1)التحرير والتنوير (21/314-315).
***************
الوجه السادس: أما قولهم "لو كان المقصود بالآية أزواجه لقال الرب: (عنكن) و(يطهركن) بالتأنيث ولم يقل (عنكم) بالتذكير".
قال الرازي (1): "ثم
إن الله تعالى ترك خطاب المؤنثات وخاطب بخطاب المذكرين لقوله: (ليذهب عنكم
الرجس) ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم واختلفت الأقوال في أهل البيت
والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي منهم..".
وقال القرطبى(2): "والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من
الأزواج وغيرهم وإنما قال: (ويطهركم) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر،
فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن يدل
عليه سياق الكلام، والله أعلم".
وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر القول الأول في معنى الآية وأنه: في نساءالنبي
صلى الله عليه وسلم: "ويؤكد هذا القول أن ما قبله وما بعده متعلق بأزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أرباب هذا القول اعتراض وهو: أن جمع
المؤنث بالنون فكيف قيل: "عنكم" و"يطهركم"؟ فالجواب: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيهن"(3).
فلو كان الله تعالى قد قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُن الرِّجْسَ)
لكان الحكم مقصوراً على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقط . وحينذاك
يخرج من حكمها أولى الخلق بها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ! وهذا لا
يصح. إذ الكرامة بسـببه هو، فهو المقصود بهـا أولاً، وأما أزواجه فلكونهن
أهله أكرمن بها.
لذا جاء الخطاب بالتذكير ليشمل الذكر والأنثى: النبي وزوجاته. وهو المستعمل في عامة لغة العرب: قديماً وحديثاً.
وبالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد قوله: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 73] وهذا خطاب لامرأة إبراهيم عليه السلام.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا
قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ
نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي
آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ} [القصص: 29] ومعلوم أن موسى سار بزوجته ابنة شعيب.
وقوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا
عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ
إِلَى أُمِّهِ} [القصص: 12].
وقوله عز وجل: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33]. وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29].
إلى
غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبين أن الاستعمال القرآنى لا يمنع أن
يكون المراد بأهل البيت في الآية الكريمة نساء النبي مع الخطاب بالجمع
المذكر، بل إن المذكر هو الذي يتمشى مع هذا الاستعمال، فلم أجد التعبير
بالمؤنث مع كلمة الأهل - سواء أأريد بها الزوجات أم غيرهن - في القرآن
الكريم كله.
ومن
العجيب أنهم يخرجون نساء النبي صلى الله عليه وسلم من حكم الآية محتجين
بكونهن إناثا وفي الوقت نفسه يدخلون فاطمة رضي الله عنها تحت حكمها مع أنها
أنثى!!!!!!!!!
إن الكيل بمكيالين دليل الهوى والضلال لا أكثر.
ــــــــــــــ
(1) مفاتح الغيب (25/168).
(2) الجامع لأحكام القرآن (14/183).
(3) زاد المسير في علم التفسير (3/462).
***************
الوجه السابع: أما احتجاجهم بحديث الكساء على قصر أهل البيت على فاطمة وزوجها وابنيها رضى الله عنهم، لقول النبى صلى الله عليه وسلم "اللهم هؤلاء أهل بيتى"(1)
فهذا باطل ولا يقول به إلا جاهلا أو متجاهلا، فغاية ما فيه أنهم من أهل
البيت، وليس فيه قصر المعنى عليهم وحدهم أو إخراج غيرهم منه.
فهذا مثل قول الله جل وعلا {لِلْفُقَرَاء
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] فهل قصر الله جل وعلا وصف "الصادقين" على المهاجرين لا غير؟!!!!
وقوله تعالى: {إِنَّ
عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ
اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] أى من الدين القيم؛ وإلا فلا يقول عاقل أن الدين يقتصر على هذه المسألة!!!
فكذلك قول النبي : "هؤلاء أهل بيتي" أي من أهل بيتي.
ــــــــــــــ
(1)أخرجه
بهذا اللفظ الترمذى فى جامعه (6/182) حديث [3871] ، وأحمد في "المسند"
[26508] وفي فضائل الصحابة [978]، وأبو يعلى في مسنده [7021]، وابن أبي
شيبة في "المصنف" [32103]، والحاكم في "المستدرك" [3558]، والطبراني في
"الأوسط" [7614] وفي "الكبير" [2663]، والآجرى في "الشريعة" [1695]، جميعهم
عن أم سلمة رضي الله عنها.
***************
الوجه الثامن:
إذا كانت هذه الصيغة تمنع دخول غير المدعو لهم في مسمى أهل البيت، فكيف
تسلل تسعة آخرون إليه؟! مع أنهم لم يكونوا موجودين، ولا مخلوقين أصلاً، يوم
دعا النبي صلى الله عليه وسلم دعاءه ذلك !!
ولا
بد للقائل أن يقول: ذلك لوجود أدلة أخرى؛ فيقال: الأدلة كلها تدل على أن
لفظ (أهل البيت) يتضمن الزوجة؛ فكيف والزوجة هي خاصة أهل بيت الرجل، وأولهم
وأولاهم طبقاً إلى لغة العرب ولغة القرآن وعرف الناس الذي لم يتغير منذ
خلق الله الخلق وإلى اليوم؟! تقول: (جاءت معي أهلي) وتقصد زوجتك، وبذلك
عبرت زوجة عزيز مصر قائلة: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} [يوسف: 25] أي زوجتك. وبدلالة السياق، وسبب النزول.
فكيف ساغ أن لا تنفع هذه الأدلة كلها ولا تشفع لزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن في بيته، ويكنَّ من أهله؟! مع أن الأدلة التي احتجوا بها لإدخال أولئك التسعة ليس فيها دليل واحد من القرآن وإنما هي روايات صاغوها وأحاديث وضعوها ليس إلا!!
***************
الوجه التاسع:
أن لفظ (أهل البيت) في عمومه اللغوي يشمل أقارب النبي - صلى الله عليه
وسلم - جميعاً، أولهم القاسم وعبد الله وإبراهيم وزينب ورقية وأم كلثوم
وفاطمة، أليس هؤلاء من أهل بيته؟! فهل يستطيع أحد أن يخرج واحداً منهم من ذلك البيت الطاهر؟! وهل يمكن القول بأن الله لا يريد تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم ؟! أفهؤلاء جميعاً معصومون؟!
ثم يأتي – من بعد – أعمامه: حمزة سيد الشهداء وعباس بن عبد المطلب، ثم أبناء عمومته جعفر وعلي وعقيل وأبناء العباس، ومنهم ابنه عبد الله بن عباس، هؤلاء
كلهم مشمولون بلفظ (أهل البيت). وبهذا فسر الإمامية كلمة (ذي القربى)
الواردة في آية الخمس فقالوا: هم بنو عبد المطلب جميعاً الرجال منهم
والنساء(1) أفهؤلاء أيضًا معصومون!
ثم إن أولاد علي رضى الله عنه كثيرون: منهم محمد بن الحنفية وعباس وعمر وزينب وأم كلثوم. فلم الاقتصار على اثنين منهم: هما الحسن والحسين فقط؟ والآية عامة، وحديث الكساء - كما مر بنا - لا يصلح للتخصيص.
كما أن الله تعالى قادر - لو أراد الحسن والحسين دون غيرهما - أن يستعمل لفظاً آخر يدل عليهما صراحة وتخصيصاً. أفيريد الله سبحانه ضلالنا وحيرتنا؟ أم هدايتنا ويقيننا؟!!
ثم إن الحسن أفضل من الحسين بالاتفاق، وهو أكبر منه، بل هو أكبر أولاد أبيه، والنص يشمله، وله أولاد وأحفاد وذرية. فلماذا
لم تكن (العصمة) في واحد منهم؟ وما الذي نقلها من ذرية الحسن إلى ذرية
الحسين؟! وما الذي جعل أولاد الحسين (معصومين) بدلالة الآية ولم يجعل أولاد
الحسن كذلك، وهم جميعاً داخلون في حكمها بلا فرق؟! بل إن أولاد الحسن
ينبغي أن يكونوا أولى بها من أولاد الحسين لأفضلية الحسن!
ثم
إن للحسين أولاداً وأحفاداً وذرية، فلم اقتصرت (العصمة) على واحد منهم،
ليس هو الأكبر ولا الأوحد وهم كثر ذكوراً وإناثاً، ثم تسلسلت في الواحد بعد
الواحد، ثم انقطعت السلسلة مع أن الكل ينتسبون إلى أهل البيت؟!
ما هذا؟!!!!! بأي لغة يتحدث القوم؟!!!! ومع أي صنف من الناس؟!!!!!
إن
هذه الانتقائية التي لا مسوغ لها لغة ولا عرفاً ولا شرعاً بل ولا ذوقاً إن
هي إلا تحكم لا مستند له، وتعسف في التعامل مع النصوص لا ضابط له ولا
قانون!!!!!
ــــــــــــــ
(1) انظر مثلًا أصول الكافي (1/540).
***************
الوجه العاشر: أن هذا الحديث حجة على الرافضة، إذ جاء فى الروايات التى يستدلون بها أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضى الله عنهم وقال "اللهم هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا"(1)
وفى هذا دلالة واضحة فى أن الآية لم تنزل فى الأربعة رضى الله عنهم، وإلا
لَما كان لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم معنى فما الداعي له والأمر
محسوم من الأساس بدون دعائه ؟!
إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم دعاءه ذلك رجاء أن يشمل الله بكرامته من دعا لهم.
فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع بدخولهم في حكمها أو كان مطمئنا إلى ذلك لما دعا لهم .
وهذا يفسر لنا ما جاء في بعض الروايات أن أم سلمة رضي الله عنها أرادت الدخول معهم فردها قائلا: "أنت على مكانك وأنت على خير"(2) وفي لفظ آخر: "أنت إلى خير أنت من أزواج النبي"(3) أي لا داعي للدعاء لك والآية قد نزلت فيك أصلا.
ــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه.
(2) جامع الترمذى (5/204) حديث [3205]، والطبراني في "الكبير" [8295].
(3) شرح مشكل الآثار (2/239) حديث [766].
***************
الوجه الحادى عشر: أن آية التطهير ليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب ذلك، فقوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] كقوله تعالى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ} [المائدة: 6] فالحرج واقع للبعض رغم أن الله ما يريده، والتطهير لا يتحقق للكل رغم أن الله يريده لهم جميعا،
فالآية خطاب لجميع الأمة وهي تشبه تماما (آية التطهير) إذ اللفظ نفسه
يتكرر في الآيتين وهو في الإرادة الشرعية التي تتوقف على استجابة المخاطب
وليس في الإرادة الكونية القدرية التى يلزم منها وقوع المراد فالإرادة فى كتاب الله جاءت على نوعين، قال شيخ الإسلام بن تيمية: "ينبغي أن يعرف أن الإرادة في كتاب الله على نوعين:
أحدهما: الإرادة الكونية وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذه الإرادة في مثل قوله: {فَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وقوله: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا