قال الشيخ بكر / معجم المناهي اللفظية
أفلح وأبيه إن صدق : ?
استقر الشرع العام لأُمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على تحريم الحلف بغير الله تعالى ، وأن من حلف بغير الله فقد أشرك شركاً أصغر .
والأحاديث في النهي عن الحلف بغير الله - تعالى - بلغت مبلغ التواتر ، وهي من قضايا الاعتقاد التي لا خلاف فيها بين المسلمين
وأمام هذا جاء حديث عن طلحة بن عبيدالله ، في قصة الأعرابي النجدي : أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أفلح وأبيه إن صدق )) رواه مسلم ،
وأبو داود ، وهو في البخاري ، والموطأ ، وبقية السنن ، دون لفظ : (( وأبيه
)) .
وللعلماء عن هذا اللفظ : (( وأبيه )) أجوبة تسعة هي :
1. منسوخ بأحاديث التشريع العام .
2. على تقدير محذوف : (( ورب أبيه )) .
3. خاص به - صلى الله عليه وسلم - .
4. تصحيف من قوله : (( والله )) .
5. أن الرواية قد وردت بلفظ : (( والله )) كما ذكرها ابن عبدالبر في : (( التمهيد : 14 /367 )) .
6. جرت بدون قصد الحلف . كما جرى : عقْرى ، حلْقى ، وما أشبههما .
7. لفظة غير محفوظة فهي ضعيفة منكرة . قاله ابن عبدالبر .
8. لفظة غير محفوظة ، فهي شاذة كما في ضعيف أبي داود .
9. لفظ يقصد به التأكيد لا التعظيم .
وفي الباب أيضاً : حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - في مسلم ، كتاب
الزكاة من صحيحه ، وابن ماجه برقم : 2706 ، وفيه قال : (( نعم وأبيك
لتًنبَّأنَّه )) .
وحديث وهب بن عقبة العامري ، في قصة : الفُجيع العامري ، وفيه قال - صلى
الله عليه وسلم - : (( ذاك وأبي الجدع )) رواه داود في كتاب الأطعمة من ((
سُننه )) . وهو ضعيف .
فهذه أحاديث ثلاثة ، اثنان في أبي داود ، متكلم في سندها ، والثالث في صحيح
مسلم ، وقد علمت الأجوبة عنها . ومثل هذه الوقائع النادرة لا تقضي على
التشريع العام للأمة الذي بلغت به النصوص مبلغ التواتر ، وجُلُّها ناهيةٌ
بالنص عن الحلف بالآباء ، وكلها مُعلِّلة له بأنَّه شرك ، والشرك لا يدخله
نسخ ، ولا تخصيص ، فتعين أن تكون الأحاديث المذكورة مؤولة أو منسوخة والله
أعلم
فقد جاء الحديث من طريق مالك عن عمّه أبي سهيل عن أبيه أنه سمع طلحة بن
عبيد الله يقول : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ،
ثائر الرأس ، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول ، حتى دنا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ((خمس صلوات في اليوم والليلة )) فقال : هل علي غيرهن ؟ قال : (( لا
، إلا أن تطوع ، وصيام شهر رمضان )) فقال : هل علي غيره ؟ فقال : (( لا ،
إلا أن تطوع )) وذكرله رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة ، فقال : هل
علي غيرها ؟ قال : (( لا ، إلا أن تطوع )) قال : فأدبر الرجل وهو يقول :
والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( أفلح إن صدق )) .
الحديث أخرجه مالك في (( الموطأ )) ( 1 / 175 ) والبخاري ( 46 ) ، ( 1891 )
، ( 2678 ) ، ( 6956 ) ومسلم ( 11 ) وأبو داود ( 391 ) والنسائي ( 1 / 226
ــ 228 ) و ( 4 / 121 ) والشافعي في (( مسنده )) ( 1 / 234 ) وأحمد في ((
مسنده )) ( 1 / 162 ) وابن حبان في (( صحيحه )) ( 1724 ) وابن الجارود في
(( المنتقى )) ( 144 ) والبزار ( 3 / 148 __ 149 ) والبغوي في (( شرح السنة
)) ( 1 / 18 ــ 19 ) واللالكائي في (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة
)) ( 1545 ) والمروزي في (( تعظيم قدر الصلاة )) ( 1 / 408 ) .
إلا أنه قد تفرّد بلفظة (( وأبيه )) إسماعيل بن جعفر المدني ، أخرجها مسلم (
1 / 150 ) وأبو داود ( 392 ) ( 3252 ) والنسائي في (( الكبرى )) ( 2 / 61 )
وابن خزيمة في (( صحيحه )) ( 1 / 158 ) والدامي ( 1541 ) والبيهقي في ((
السنن الكبرى )) ( 2 / 466 ) و ( 4 / 201 ) وابن منده في (( الإيمان )) ( 1
/ 280 ) وابن عبد البرّ في (( التمهيد )) ( 16 / 158 ــ 159 ) من طريق
إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله عن النبي صلى
الله عليه وسلم بهذا الحديث نحو حديث مالك غير أنه قال : فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (( أفلح وأبيه إن صدق )) أو (( دخل الجنة وأبيه إن
صدق )) .
وقد أنكر هذه اللفظه الإمام ابن عبد البر في (( التمهيد )) ( 14 / 361 ) فقال : [ لفظة منكرة ، تردّها الآثار الصحاح ] .
وكذلك أنكرها الشيخ الألباني كما في (( الصحيحه )) ( 1 / 223 ) ، وذكر ـ
رحمه الله ـ أنه تكلم عليها في (( المجلد العاشر )) من (( الضعيفة )) برقم (
4992 ) ولا تطوله يدي الآن .
وكذلك الشيخ عبد الله السعد في شرحه لـ (( جامع الترمذي )) .
وممن أشار إلى نكارتها ـ أيضاً ـ الشيخ سليمان العلوان في كتابه (( القول الرشيد )) ص 43 .
وعلى فرض صحة هذا اللفظه فلها عدّة أجوبه ، أذكر بعضها على عُجالة :
قال البغوي في (( شرح السنة )) ( 10 / 6 ) :
[ قيل : تلك كلمة جرت على لسانه على عادة الكلام الجاري على الألسن ، لا
على قصد القسم ، وكانت العرب تستعملها كثيراً في خطابها تؤكد بها كلامها لا
على وجه التعظيم ، والتهي إنما وقع عنه إذا كان على وجه التوقير ،
والتعظيم له ، كالحالف بالله يقصد بذكر الله سبحانه وتعالى في يمينه
التعظيم ، والتوقير يدلُّ عليه أن فيه ذكر أبي الأعرابي ، ولا يحلف بأبي
الغير تعظيماً ، وتوقيراً ، وقيل : فيه إضمار ، معناه : ورب أبيه ، كما سبق
في تأويل الآية ، وإنما نهاهم عن ذلك ، لأنهم لم يكونوا يضمرون ذلك في
أيمانهم ، وإنما كان مذهبهم في ذلك مذهب التعظيم لآبائهم ، والله أعلم ] .
قال ابن عبد البر في (( التمهيد )) ( 16 / 158 ) :
[وهذه لفظة إن صحت فهي منسوخة ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الحلف بالآباء وبغير الله ، وقد ذكرنا ذلك فيما سلف من كتابنا هذا ] .
وقال الحافظ ابن حجر في (( الفتح )) ( 1 /132 ) :
[ وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة (( أفلح وأبيه إن صدق ))
أو (( دخل الجنة وأبيه إن صدق )) ، ولأبي داود مثله لكن بحذف (( أو )) ،
فإن قيل : ما الجامع بين هذا وبين النهى عن الحلِف بالآباء ؟ أجيب بأن ذلك
كان قبل النهي ، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف ، كما
جرى على لسانهم عقرى ، حلقى ، وما أشبه ذلك ، أو فيه إضمار اسم الرب كأنه
قال : ورب أبيه ، وقيل : هو خاص ويحتاج إلى دليل ، وحكى السهيلي عن بعض
مشايخه أنه قال : هو تصحيف ، وإنما كان والله ، فقصرت اللامان ، واستنكر
القرطبي هذا وقال : إنه يجزم الثقة بالروايات الصحيحة ، وغفل القرافي فادعى
أن الرواية بلفظ : وأبيه لم تصح ، لأنها ليست في الموطأ ، وكأنه لم يرتض
الجواب فعدل إلى رد الخبر ، وهو صحيح لا مرية فيه ، وأقوى الأجوبة الأولان
] .
وقال ابن الصلاح في (( صيانة صحيح مسلم )) ص 53 :
[وقوله في رواية أخرى : (( أفلح وأبيه إن صدق )) ليس حلِفاً بأبيه ، وإنما
هذه كلمة جرت عادة العرب بأنهم يبدؤون بها كلامهم ، قصدٌ لِقَسَمٍ مُحَقّق ،
والله أعلم ] .
والله أعلى وأعلم ، لا ربّ سواه