( 15 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
نكمل اليوم ما بدأناه من هذه السلسلة ( شبهات وأباطيل حول معاوية رضي الله عنه ) وقد تقدم معنا في الحلقة الماضية الحديث عن شبهة لعن علي رضي الله عنه على المنابر بأمر من معاوية .. واليوم سيكون الرد إن شاء الله ، عن مسألة بيعة الحسن لمعاوية ، واشتراط الحسن أن تكون ولاية العهد من بعد معاوية له .. وإن قضية كهذه فيها إساءة بالغة لشخص الحسن بن علي رضي الله عنه ، حيث اتهمته هذه النصوص بالسعي للصلح من أجل الملك و الدنيا ومتاعها الفاني ..
وتقدم معنا في حلقة مضت – الحلقة رقم ( 13 ) - الحديث عن شبهة اتهام معاوية بدس السم للحسن وقتله .. ولكن هذه الشبهة لم تأتي من فراغ خاصة أن هناك رواية يتمسك بها المبتدعة تتحدث عن معاهدة الصلح والتي اشترط فيها الحسن على معاوية بأن تكون الخلافة له من بعده .. فكان أمام معاوية هذه العقبة ، لذا فإنه لما بدأ يفكر في البيعة ليزيد لم يجد من أن يدس السم إليه ، ليتخلص من الشرط !!!
ولمعرفة أبعاد هذه القضية وهذه الشبهة ، ثم الخروج بحكم صحيح كان لابد من معرفة كيفية الصلح وما هي الشروط التي اقتضاها ذلك الصلح ..
كان الحسن رضي الله عنه معارضاً لخروج أبيه لقتال أهل الجمل وأهل الشام ، كما جاء ذلك بإسناد حسن عند ابن أبي شيبة في المصنف (15/99-100) ، و ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 42/456-457) .. ثم لما رأى تلك المعارك التي لاشك أنها تركت في نفسه جرحاً بليغاً ، خاصة بعد أن رأى تحول المسلمين من فاتحين ومجاهدين إلى جماعات متناحرة شاهرين الرماح في وجوه بعضهم البعض .. ورأى كيف سقط الآلاف من المسلمين ، بسبب تلك الحروب التي لاتخدم إلا أعداء الإسلام .. ثم إنه بالتأكيد قد أحس بتلك الأصابع الخفية ، التي ساعدت على تأجيج وتوسيع الخلاف بين المسلمين ..
بعد استشهاد علي رضي الله عنه ، اجتمع أنصار علي واختاروا الحسن خليفة لهم من بعد أبيه ، وبايع الحسن أهل العراق على بيعتين : بايعهم على الإمرة ، وبايعهم على أن يدخلوا فيما يدخل فيه ، ويرضوا بما رضي به . انظر : طبقات ابن سعد الطبقة الخامسة ( 5/257 ) بإسناد حسن .
وبعد أن أخذ البيعة منهم قال لهم : الحقوا بطينتكم وإني والله ما أحب أن ألي من إمرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما يزيد على ذرة خردل يهراق منهم محجم دم . انظر : طبقات ابن سعد الطبقة الخامسة ( 5/257 ) بإسناد صحيح .
هنا ارتاب أهل العراق من شرط الحسن عندما بايعهم ، ووقع في حسّهم أن الحسن ليس بصاحب قتال ، وقد تعرض الحسن رضي الله عنه لمحاولة اغتيال من قبل أحد الخوارج حينما طعنه في وركه طعنة خطيرة ، مرض منها الحسن طويلاً وكادت أن تودي بحياته .. انظر : المعجم الكبير للطبراني ( 3 / 61 ) بإسناد حسن .
وهذا التصرف جعل الحسن يزداد بغضاً لأهل الكوفة ، فراسل معاوية في الصلح . وفي المقابل راسل معاوية الحسن ووافق على الصلح ، هنا استشار الحسن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في هذا التصرف فأيده . طبقات ابن سعد ، الطبقة الخامسة ( 269 ) بسند صحيح .
هذا وقد مرت قضية الصلح بمراحل عدة ، أشار إليها الدكتور خالد الغيث في كتابه القيم مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ( ص 126 – 135 ) وهذا مختصرها :-
المرحلة الأولى : دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للحسن بأن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ، فتلك الدعوة المباركة هي التي دفعت الحسن رضي الله عنه إلى الإقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم .
المرحلة الثانية : الشرط الذي وضعه الحسن أساساً لقبوله مبايعة أهل العراق له ، بأن يسالموا من يسالم ويحاربوا من يحارب .
المرحلة الثالثة : محاولة الاغتيال التي تعرض لها الحسن رضي الله عنه على يد الخوارج ، كما ذكر ذلك ابن سعد في الطبقات (1/323 ) بسند حسن .
المرحلة الرابعة : إجبار الحسن رضي الله عنه على الخروج لقتال أهل الشام من غير رغبة منه ، وهذا الأمر أشار إليه ابن كثير رحمه الله في البداية ( 8/14 ) بقوله : ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحد ، ولكن غلبوه على رأيه ، فاجتمعوا اجتماعاً عظيماً لم يسمع بمثله ..
المرحلة الخامسة : خروج معاوية رضي الله عنه من الشام وتوجهه إلى العراق ، بعد أن وصل إليه خبر خروج الحسن من الكوفة ..
المرحلة السادسة : تبادل الرسل بين الحسن ومعاوية ، ووقوع الصلح بينهما رضان الله عليهما .
المرحلة السابعة : المحاولة الثانية لاغتيال الحسن رضي الله عنه ، حيث أنه بعد أن نجحت المفاوضات بين الحسن ومعاوية ، شرع الحسن في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم ، فقام فيهم خطيباً ، وبينما هو يخطب إذ هجم عليه بعض معسكره محاولين قتله ، ولكن الله أنجاه منهم . انظر هذا الخبر في الأخبار الطوال للدينوري ( ص 216 – 217 ) .
المرحلة الثامنة : تنازل الحسن بن علي عن الخلافة وتسليمه الأمر إلى معاوية رضوان الله عليهم أجمعين . انظر خبر هذه المرحلة عند الطبراني في الكبير ( 3 / 26 ) بسند حسن وفضائل الصحابة للإمام أحمد ( 2 / 769 ) بسند صحيح .
قال أبو سلمة التبوذكي رحمه الله في معرض الإشادة بجمع عثمان بن عفان رضي الله عنه القرآن : وكان في جمعه القرآن كابي بكر في الردة . السنة للخلال ( 322 ) .
قلت : وكذلك كان الحسن رضوان الله عليه في صلحه مع معاوية رضي الله عنه في حقنه لدماء المسلمين ، كعثمان في جمعه القرآن وكأبي بكر في الردة .
ولا أدل على ذلك من كون هذا الفعل من الحسن يعد علماً من أعلام النبوة ، والحجة في ذلك ما سجله البخاري في صحيحه لتلك اللحظات الحرجة من تاريخ الأمة المسلمة حين التقى الجمعان ، جمع أهل الشام وجمع أهل العراق ، عن أبي موسى قال : سمعت الحسن – أي البصري - يقول : استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها . فقال له معاوية - و كان والله خير الرجلين - : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء ، هؤلاء و هؤلاء ، هؤلاء من لي بأمور الناس ؟ من لي بنسائهم ؟ من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس – عبد الله بن سمرة و عبد الله بن عامر بن كريز – فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه و قولا له و اطلبا إليه . فأتياه فدخلا عليه فتكلما و قالا له و طلبا إليه . فقال لهما الحسن بن علي : إنّا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال – أي فرقنا منه في حياة علي وبعده ما رأينا في ذلك صلاحاً ، قال ابن حجر : فنبه على ذلك خشية أن يرجع عليه بما تصرف فيه ( 13 / 70 ) – و إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها – أي المعسكرين الشامي والعراقي قد قتل بعضها بعضاً ، فلا يكفون عن ذلك إلا بالصفح عما مضى منهم - قالا : فإنه يعرض عليك كذا و كذا و يطلب إليك و يسألك ، قال : فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به ، فما سألهما شيئاً إلا قالا نحن لك به فصالحه ، فقال الحسن - أي البصري - : و لقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر - و الحسن بن علي إلى جنبه و هو يقبل على الناس مرة و عليه أخرى و يقول - : إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . صحيح البخاري مع الفتح (5/361) و الطبري (5/158) .
و في هذه القصة فوائد كثيرة أفادها الحافظ في الفتح (13/71-72) منها :-
عَلَمٌ من أعلام النبوة .
2- فيها منقبة للحسن بن علي رضي الله عنهما ، فإنه ترك الملك لا لقلة و لا لذلة و لا لعلة ، بل لرغبته فيما عند الله ، و لما رآه من حقن دماء المسلمين ، فراعى أمر الدين و مصلحة الأمة .
3- فيها ردّ على الخوارج الذين كانوا يكفرون علياً و من معه و معاوية و من معه ، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين .
4- فيها دلالة على فضيلة الإصلاح بين الناس ، ولا سيما في حقن دماء المسلمين .
5- فيها دلاله على رأفة معاوية بالرعية و شفقته على المسلمين ، و قوة نظره في تدبير الملك و نظره في العواقب .
6- فيها جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحاً للمسلمين .
7- و فيه جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل ، لأن الحسن و معاوية ولي كل منهما الخلافة و سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ) و سعيد بن زيد (ت51هـ) في الحياة و هما بدريان .
قال ابن بطال معلقاً على رواية البخاري : هذا يدل على أن معاوية كان هو الراغب في الصلح ، وأنه عرض على الحسن المال ورغبه فيه ، وحثه على رفع السيف ، وذكره ما موعده جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الإصلاح به . انظر : الفتح ( 13 / 69 ) .
وهناك رواية أخرى أخرجها ابن سعد في الطبقات ( 1 / 330 – 331 ) بسند صحيح وهي لا تقل أهمية عن رواية البخاري في الصلح ، وتعد مكملة لها ، وهي من طريق عمرو بن دينار : إن معاوية كان يعلم أن الحسن أكره للفتنة ، فلما توفي علي بعث إلى الحسن فأسلح الذي بينه وبينه سراً ، وأعطاه معاوية عهداً إن حدث به حدث والحسن حي لَيُسَمِّينَّهُ – أي يرشحه للخلافة من بعده - ، وليجعلن هذا الأمر إليه ، فلما وثق منه الحسن ، قال ابن جعفر : والله إني لجالس عند الحسن إذ أخذت لأقوم فجذب بثوبي وقال : اقعد يا هَناهُ – أي يا رجل – اجلس ، فجلست ، قال : إني قد رأيت رأياً وأحب أن تتابعني عليه ، قال : قلت : ما هو ؟ قال : قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث ، فقد طالت الفتنة ، وسقت فيها الدماء وقطعت فيها الأرحام ، وقطعت السبل ، وعطلت الفروج – يعني الثغور - ، فقال ابن جعفر : جزاك الله عن أمة محمد فأنا معك على هذا الحديث ، فقال الحسن : اع لي الحسين ، فبعث إلى الحسين فأتاه فقال : يا أخي أني قد رأيت رأياً وإني أحب أن تتابعني عليه ، قال : ما هو ؟ قال : فقص عليه الذي قال لابن جعفر ، قال الحسين : أعيذك بالله أن تكذب علياً في قبره وتصدق معاوية ، قال الحسن : والله ما أردت أمراً قط إلا خالفتني إلى غيره ، والله لقد هممت أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضي أمري ، قال : فلما رأى الحسين غضبه قال : أنت أكبر ولد علي ، وأنت خليفته ، وأمرنا لأمرك فافعل ما بدا لك .
والحقيقة أن الرغبة في الصلح كانت موجودة لدى الطرفين الحسن ومعاوية ، فقد سعى الحسن رضي الله عنه إلى الصلح ، وخطط له منذ اللحظات الأولى لمبايعته ، ثم جاء معاوية فأكمل ما بدأه الحسن ، فكان عمل كل واحد منهما مكملاً للآخر رضوان الله عليهم أجمعين .
ومن خلال النصين السابقين ، وبالتدقيق في الروايات التي تنص على طلب الحسن الخلافة بعد معاوية ، نجد أنها تتنافى مع قوة و كرم الحسن ؛ فكيف يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء الأمة و ابتغاء مرضاة الله ، ثم يوافق على أن يكون تابعاً ، يتطلب أسباب الدنيا و تشرأب عنقه للخلافة مرة أخرى ؟!
و الدليل على هذا ما ذكره جبير بن نفير قال : قلت للحسن بن علي ، إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة ، فقال كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت و يحاربون من حاربت ، فتركتها ابتغاء وجه الله ، ثم أبتزها بأتياس أهل الحجاز . البلاذري في أنساب الأشراف (3/49) و طبقات ابن سعد ، الطبقة الخامسة ( ص 258) بسند جيد .
وفي اعتقادي أن هذه القصة عبارة عن إشاعة سارت بين الناس وبالذات بين أتباع الحسن ، ثم إنه من الملاحظ أن أحداً من أبناء الصحابة أو الصحابة أنفسهم ، لم يذكروا خلال بيعة يزيد شيئاً من ذلك ، فلو كان الأمر كما تذكر الروايات عن ولاية العهد ، لاتخذها الحسين رضي الله عنه حجة ، وقال أنا أحق بالخلافة ، ولكن لم نسمع شيئاً من ذلك على الإطلاق .
ومما يؤيد هذا الاعتقاد ، ما قرره الأستاذ محمد ضيف الله بطاينة في مقال له منشور في مجلة الجامعة الإسلامية العدد ( 83 – 84 ) سنة 1409هـ ، حيث قال : وربما أن هذه الإشاعة – قضية ولاية عهد الحسن بعد معاوية – أطلقت في ظروف متأخرة ، أرادت التعريض بالبيعة ليزيد ، واتهام معاوية بالخروج على الشورى في استخلافه ولده يزيد ، وهي قضية جرت في فترة تالية من الصلح بين الحسن ومعاوية .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة ومع شبهة استغناء معاوية عن المطالبة بقتلة عثمان ، مقابل توليه الخلافة ..
وتقبلوا تحيات أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
( 16 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
نكمل اليوم ما بدأناه من هذه السلسلة ( شبهات وأباطيل حول معاوية رضي الله عنه ) وقد تقدم معنا في الحلقة الماضية الحديث عن مسألة بيعة الحسن لمعاوية ، واشتراط الحسن أن تكون ولاية العهد من بعد معاوية له .. واليوم سيكون الرد إن شاء الله عن مسألة استغناء معاوية عن المطالبة بقتلة عثمان ، مقابل توليه الخلافة .. إو بصيغة أخرى ، لماذا لم يقم معاوية الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه بعد أن آلت إليه الخلافة ..
قبل الإجابة على على هذه الشبهة .. ليسأل أحدنا نفسه هذه الأسئلة :-
لماذا أبقى علي رضي الله عنه على أهل الفتنة في جيشه أثناء حرب الجمل ؟
ولِمَ لَمْ يخرجهم من جيشه أثناء توجهه إلى الشام ؟
لما انتصر علي رضي الله عنه على أهل الجمل ، لماذا لم يوقع القصاص على هؤلاء القتلة ؟!
وأيضاً لماذا لم يوقع القصاص عليهم بعد ذلك ، خاصة بعد أن انتهى الخلاف بينه وبين معاوية بعد حرب صفين ؟!
لماذا لم يقم الحسن بن علي رضي الله عنه بإيقاع القصاص على قتلة عثمان بعد أن تولى الخلافة من بعد أبيه ؟!
إلى غيرها من الأسئلة الكثيرة التي تدور في خلد الواحد منا .. لماذا تناسينا هذه الأسئلة والإجابة عليها ، وتمسكنا فقط بشبهة مطالبة معاوية رضي الله عنه بالخلافة مقابل استغنائه عن المطالبة بقتلة عثمان ؟!! مع أنه لم يرد إلينا رواية واحدة لا صحيحة ولا ضعيفة تفيد استغناء معاوية عن المطالبة بقتلة عثمان مقابل توليه الخلافة ..
ولنا أن نقول : إن السبب في إبقاء علي على أهل الفتنة في جيشه وعدم إقامة الحد عليهم ؛ أنهم – أي أهل الفتنة - كانوا سادات في أقوامهم ، فكان علي يرى أن يصبر عليهم إلى أن تستقر الأمور .. فقد كان رضي الله عنه ينظر إلى القضية نظرة مصلحة ومفسدة ، فرأى أن المصلحة تقتضي تأخير القصاص لا تركه ، فأخر القصاص من أجل هذا ..
وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة .. ففي حادثة الإفك تَكَلم في الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله عنها بعض الناس ، وكان الذي تولى كبر هذا الأمر عبد الله بن أبي بن سلول ، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من يعذرني في رجل وصل أذاه إلى أهلي ؟ قام سعد بن معاذ وقال : أنا أعذرك منه يارسول الله ، إن كان منّا معشر الأوس قتلناه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا بقتله ، فقام سعد بن عبادة فرد على سعد بن معاذ ، وقام أسيد بن حضير فرد على سعد بن عبادة ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، فصار النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت . انظر الخبر بتمامه في البخاري حديث رقم ( 4141 ) .
ولنسأل أنفسنا : لماذا لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم حد القصاص على ابن سلول ؟
الجواب : لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اغتم بهذه الإشاعة وأعلن على الملأ وفي المسجد ثقته بزوجته وبصاحبه ابن المعطل ، ولكن حسن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة ، أوقف فتنة كادت أن تقع بين الحيين ، وقد دلت هذه المعالجة من الرسول صلى الله عليه وسلم للمشكلة التي حاول ابن سلول استغلالها على حسن سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في تدبير الأمور وتجنب المشاكل وتفويت الفرص على المغرضين المندسين بين صفوف المؤمنين ، وكان نتيجة ذلك أن جافى ابن سلول قومه ، فكانوا هم الذين يعنفونه ويفضحون دسائسه ..
وقد أجاب عدد من العلماء عن الحكمة التي من أجلها ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على ابن سلول .. من مثل القرطبي رحمه الله في تفسيره ( 12 / 201 – 202 ) بقوله : وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله قد أعد له في الآخرة عذاباً عظيماً ، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصاً من عذابه في الآخرة وتخفيفاً عنه ، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله وبكذب كل من رماها ، فقد حصلت فائدة الحد إذ المقصود إظهار القاذف وبراءة المقذوف ..
وقال أيضاً : ويحتمل أن يقال إنما ترك حد ابن أبي استئلافاً لقومه واحتراماً لابنه ، واطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك ، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه .
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ( 2 / 127 – 128 ) : وقيل الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار – كما هو الحال بالنسبة لقتلة عثمان ، فإنهم أعلاج من قبائل شتى - ، وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد ، فإنه كان يذكره بين أصحابه ، ولم يشهدوا عليه ، ولم يكن يذكره بين المؤمنين ..
وقال أيضاً : وقيل بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته عليه ، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مراراً ، وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام ، فإنه كان مطاعاً فيهم ، رئيساً عليهم – كذلك الحال بالنسبة لقتلة عثمان رضي الله عنه - ، فلم يؤمن إثارة الفتنة في حده ..
قلت : وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم عظم مكانة ابن سلول في قومه .. فإنه وقبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان الأوس والخزرج قد اتفقوا على أن يجعلوا عبد الله بن أبي ملكاً عليهم ، فهو له عندهم منزلة عظيمة ، ولا ننسى موقفه في غزوة أحد حين رجع بثلث الجيش .. لهذا السبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد عليه للمصلحة التي ينشدها ، وتجنباً للمفسدة التي ستترتب على إقامة الحد عليه ، إذ رأى أن جلده أعظم مفسدة من تركه ..
وهكذا كان موقف علي رضي الله عنه من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، رأى تأخير القصاص أقل مفسدة من تعجيله ، لأن علياً رضي الله عنه لايستطيع أن يقتل قتلة عثمان أصلاً ، والسبب في ذلك أن لهم قبائل تنتصر لهم وتدافع عنهم ، والأمن غير مستتب ، ومازالت الفتنة مستمرة ، ولا أدل على ذلك من قيام هؤلاء الخوارج من قتل علي رضي الله عنه بعد أن حاربهم في النهروان ، وكذلك المحاولة التي تعرض لها كل من معاوية وعمرو رضي الله عنهما .. ولا ننسى محاولات القتل التي تعرض لها الحسن بن علي رضي الله عنهما على يد هؤلاء الخوارج ..
وقد أجاب الإمام الطحاوي رحمه الله عن سبب تأخر علي رضي الله عنه في إقامة الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه بقوله : و كان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان ، من لم يُعرف بعينه و من تنتصر له قبيلته ، و من لم تقم عليه حجة بما فعله ، و من قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله .شرح الطحاوية (ص483) .
و على كل حال فإن علي رضي الله عنه ، كان موقفه ، موقف المحتاط منهم ، المتبرئ من فعلهم .
وهو و إن كان لم يخرجهم من عسكره فقد كان يعاملهم بحذر و ينظر إليهم بشزر ، حتى قال الإمام
الطبري : بأنه لم يول أحد منهم أثناء استعداده للمسير إلى الشام ، حيث دعا ولده محمد بن الحنفية
و سلمه اللواء ، و جعل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قائد الميمنة ، و عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه على الميسرة ، و جعل على مقدمة الجيش أبا ليلى بن عمر بن الجراح ، و استخلف على المدينة قثم بن العباس رضي الله عنهم . تاريخ الطبري (4/445) .
و هذه بادرة منه رضي الله عنه ليعلن تبرؤه من أولئك المارقين ، و يثبت قدرته على السيطرة على أمر المسلمين من غير عون منهم ، فقد كان له في المسلمين الموالين له و المؤيدين لخلافته ما يغنيه عن الاستعانة بهم و التودد إليهم ..
و هذا أقصى ما يمكنه فعله بتلك الطائفة إذ ذاك ، و هو كافٍ في عذره ، لأنهم مئات و لهم قرابة
وعشائر في جيشه ، فما يأمن لو عاملهم بأكثر من هذا من الشدة أن يمتد حبل الفتنة في الأمة ، كما حصل ذلك لطلحة و الزبير و عائشة بالبصرة حين قتلوا بعضاً منهم ، فغضب لهم قبائلهم و اعتزلوهم . إفادة الأخيار للتباني (2/52) .
و يناقش الإمام الباقلاني هذا الموضوع فيقول : و على أنه إذا ثبت أن علياً ممن يرى قتل الجماعة بالواحد فلم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلا بأن تقوم البينة على القتلة بأعيانهم ، و بأن يحضر أولياء الدم مجلسه ، و يطلبون بدم أبيهم و وليهم .. و إن قتل قتلة عثمان ، لا يؤدي إلى هرج عظيم و فساد شديد ، قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه ، و إنّ تأخير إقامة الحد إلى وقت إمكانه و تقصّي الحق فيه أولى و أصلح للأمة و ألمّ لشعثهم و أنفى للفساد و التهمة عنهم . التمهيد في الرد على الملحدة (ص231) .
و إن السياسة الحكيمة تقتضي ما كان ينادي به أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من التريث و الأناة وعدم الاستعجال ؛ إذ إن الأمر يحتاج إلى وحدة الصف و الكلمة لإيجاد موقف موحد ، و مواجهة ذلك التحدي الذي يهدد مركز الخلافة ، بيد أن الخلاف في الرأي أضعف مركز الخلافة الجديد ، و قضى بالتالي على كل الآمال في نيل ثأر الخليفة المقتول .
ولذلك لما وصلت الخلافة إلى معاوية لم يقتل قتلة عثمان أيضاً ؟ والسبب : لأنه صار يرى ما كان يراه علي رضي الله عنه من قبل ، فعلي رضي الله عنه كان يرى قضية إيقاع القصاص على قتلة عثمان واقعاً ، في حين كان معاوية رضي الله عنه يراه نظرياً ، فلما آلت الخلافة إليه ، رآه واقعاً ..
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : بل لم يكن عليّ مع تفرق الناس عليه متمكناً من قتل قتلة عثمان إلا بفتنة تزيد الأمر شراً وبلاء ، ودفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس ، لأنهم كانوا عسكراً ، وكان لهم قبائل تغضب لهم .
وقال أيضاً : ولما سار طلحة والزبير رضي الله عنهما إلى البصرة ليقتلوا قتلة عثمان ، قام بسبب ذلك حرب قتل فيها خلق ، ومما يبين ذلك أن معاوية قد أجمع الناس عليه بعد موت علي ، وصار أميراً على جميع المسلمين ، ومع هذا فلم يقتل قتلة عثمان الذين كانوا قد بقوا .. إلى أن قال : وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت ، فأما إذا أقبلت فإنها تزين ، ويظن أن فيها خيراً ، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء ، صار ذلك مبيناً لهم مضرتها ، وواعظاً لهم أن يعودوا في مثلها .. والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر ، ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت ، وصارت عبرة لهم ولغيرهم ، ومن استقرأ أحوال الفتن التي جرت بين المسلمين ، تبين له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله .. انظر : أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ( ص 48 – 50 ).
ولاشك أن الحالة التي يعيشها الخليفة الراشد علي رضي الله عنه ، والوضع الذي أدركه حينذاك ، خلاف ما يظنه المطالبون بدم عثمان رضي الله عنه من أهل الشام وغيرهم ، وذلك يكمن في أمور جِد خطيرة لها اعتبارها وملابساتها مما نحسبه قد خفي عليهم ، منها :-
أن قتلة عثمان من أهل الفتنة كثيرون جداً ، فكان من الصعب مطالبتهم ، في حين نرى الفتنة تزداد يوماً إثر يوم .
أن قتلة عثمان من أهل الفتنة هم في جيش علي رضي الله عنه ، ومن قبائل كثيرة مختلفة ، يعسر مطالبتهم والبحث عنهم ، والأمر بعد لم يستتب لخليفة المسلمين ، وقد تقرر عند فقهاء المسلمين أن الحدود قد تُأخر – لاتترك بالكلية – عن أصحابها حالة الجهاد والفتن ، كما هو متروك للمصلحة العامة التي يراها ولي أمر المسلمين إذا خاف كبير مفسدة ؛ بل نجد قاعدة : ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) من القواعد المعتبرة التي هي من مقاصد الشريعة الإسلامية .
أن قتلة عثمان من أهل الفتنة لا يزالون في تمكين واستيلاء على بعض الأمور ، وكذلك لهم عدد وأعوان ، حينذاك يخشى من مطالبتهم ، في وقت يرى فيه علي رضي الله عنه أن تجتمع الكلمة ، وتأتلف القلوب ، ويسود الأمن وتنظم الأمور ، ومن ثم تتبين وتنكشف الغمة ويتعرّ القتلة من أعوانهم وعددهم ، وتقام الحدود الشرعية فيهم وفي غيرهم . انظر : تسديد الإصابة في شجر بين الصحابة ، لذياب بن سعد الغامدي ( ص 55 – 56 ) .
يقول القاضي أبو يعلى الفراء رحمه الله في كتابه القيم : تنزيه خال المؤمنين معاوية ( ص 85 ) : ووجه اجتهاد علي رضي الله عنه في الامتناع أشياء :-
أحدها : أنه لم يعرفهم بأعيانهم ولا أقامت شهادة عليهم بقتلهم ، وقد كان كثيراً ما يقول : من قتل عثمان فليقم ، فيقوم أربعة آلاف مقنع – أي ملبس بالحديد – وقيل أكثر .
الثاني : لو عرفهم بأعيانهم وخاف قتل نفسه ، وفتنة في الأمة تؤول إلى إضعاف الدين وتعطيل الحدود ،فكان الكف عن ذلك إلى وقت انحسام الفتنة وزوال الخوف ، وهذا حال علي في أتباعه . – وكذا أدرك معاوية رضي الله عنه ما نظن أنه كان خافياً عليه بعد أن آلت إليه الخلافة - .
وخلاصة الأمر : فإن علياً ومعاوية رضي الله عنهما ما كانا يستطيعان إقامة القصاص على قتلة عثمان ، لا عجزاً .. بل خوفاً من الفتنة وافتراق الأمة .. والله أعلم ..
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة وشبهة أخرى .. أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
( 17 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
نكمل اليوم ما بدأناه من هذه السلسلة ( شبهات وأباطيل حول معاوية رضي الله عنه ) وقد تقدم معنا في الحلقة الماضية الحديث عن مسألة استغناء معاوية عن المطالبة بقتلة عثمان ، مقابل توليه الخلافة .. إو بصيغة أخرى ، لماذا لم يقم معاوية الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه بعد أن آلت إليه الخلافة .. واليوم سيكون الرد إن شاء الله عن مسألة :-
هل معاوية رضي الله عنه خليفة أم ملك ؟
هل تندرج فترة حكم معاوية تحت مسمى ( الملك العضوض ) ؟
وقبل أن أبدأ أود أن أنبه إلى أنني سأعتمد كثيراً في كتابه هذه الحلقة على رسالة الأستاذ خالد الغيث : مرويات خلافة معاوية رضي الله عنه في تاريخ الطبري ، مع إضافات بسيطة وتعليقات قليلة مني ، هذا للعلم والله الموفق ..
وقبل الإجابة على هذين السؤالين ينبغي أن نتعرف على معنى الملك العضوض .
قال الخطابي في غريب الحديث ( 1/250 ) : العضوض جمع عِض ، وهو الرجل الخبيث الشرس الخُلُق .
وقال ابن منظور في اللسان ( 7/188) : العض : الشد بالأسنان على الشيء ... وقال في موضع آخر ( 7/191) : ومُلك عضوض : شديد فيه عسف وعنف ، أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعضون عضاً .
وقال الفيروز آبادي في القاموس ( ص 835 ) : العضوض : ملك فيه عسف وظلم .
وبعد معرفة المقصود بالملك العضوض ، يتضح لنا عدم انطباقه على عهد معاوية رضي الله عنه ، ومن تأمل فضائل معاوية رضي الله عنه يجزم بذلك . راجع للأهمية حلقات فضائل معاوية رضي الله عنه .
ومن أجل تصنيف عهد معاوية رضيي الله عنه فلابد من استعراض أهم الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الخلافة والخلفاء ..
عن سفينة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله الملك ، أو ملكه من يشاء . انظر : صحيح سنن أبي داود للألباني (3/879) .
عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً جبرياً – أي عتو وقهر – فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، ثم سكت . السلسلة الصحيحة (1/
.
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، قال ثم تكلم بكلام خفي عليّ قال : قلت أبي : ماقال ؟ قال : كلهم من قريش . صحيح مسلم ( 12/201 ) .
وقد جاء هذا الحديث بصيغ كثيرة .. جاء في بعضها : فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال ثم يكون الهرج – أي الفتن والقتل - . انظر هذه الزيادة في صحيح سنن أبي داود ( 3/807 ) .
وقد تناول الأئمة الأعلام هذه الأحاديث بالشرح والتفصيل وأطالوا النفس في ذلك فأجادوا وأفادوا .
وفيما يلي خلاصة ما ذكروا في هذه المسألة :-
قال القاضي عياض عن الجمع بين حديثي سفينة وجابر : قد توجه هنا سؤالان ، أحدهما : أنه قد جاء في الحديث الآخر الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً ، وهذا مخالف لحديث اثني عشر خليفة ، فإنه لم يكن في ثلاثين سنة إلا الخلفاء الراشدون الأربعة ، والأشهُر التي بويع فيها الحسن بن علي ؟
والجواب عن هذا : أن المراد في حديث الخلافة ثلاثون سنة ، خلافة النبوة ، وقد جاء مفسراً في بعض الروايات خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً ، ولم يشترط هذا في الاثني عشر .
السؤال الثاني : أنه قد ولي أكثر من هذا العدد ؟ والجواب :-
هذا اعتراض باطل ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل لا يلي إلا اثنا عشر خليفة ، وإنما قالي يلي وقد ولي هذا العدد ولا يضر كونه وُجِد بعدهم غيرهم ، وهذا إن جعل المراد باللفظ كل وال .
ويحتمل أن يكون المراد مستحق الخلافة العادلين ، وقد مضى منهم من عُلِم ، ولابد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة .
وقيل : إن معناه أنهم يكونون في عصر واحد ، ويتبع كل واحد منهم طائفة .
ويحتمل أن المراد من يعز الإسلام في زمنه ويجتمع المسلمون عليه .. وهذا قد وجد قبل اضطراب بني أمية واختلافهم .
وقد ختم القاضي عياض كلامه بقوله : ويحتمل أوجهاً أخرى ، والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم. انظر شرح صحيح مسلم للنووي ( 12/201-203 ) .
كما تكلم ابن الجوزي عن الحديث الذي يرويه جابر بن سمرة رضي الله عنه فقال : قد أطلت البحث عن معنى الحديث ، وتطلبت مظانه ، وسألت عنه فلم أقع على المقصود به ؛ لأن ألفاظه مختلفة .. ثم وقع لي فيه شيء :
فأما الوجه الأول : فإنه أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه ، وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه ، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم ، فكأنه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية ، وكأن قوله ( لا يزال الدين – أي الولاية – إلى أن يلي اثنا عشر خليفة ) ، ثم تنتقل إلى صفة أخرى أشد من الأولى .
وأما الوجه الثاني : يحتمل أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان .
والوجه الثالث : أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة ، يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم . انظر : فتح الباري ( 13/225-227 ) .
وقد أدلى ابن حجر بدلوه في الكلام على حديث جابر بن سمرة فقال : الأولى أن يحمل قوله ( يكون بعدي اثنا عشر خليفة ) على حقيقة البعدية ، فإن جميع من ولي الخلافة من الصديق إلى عمر بن عبدالعزيز أربعة عشر نفساً ، منهم اثنان لم تصح ولايتهما ولم تطل مدتها وهما ، معاوية بن يزيد ، ومروان بن الحكم ، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء كما أخبر صلى الله عليه وسلم ، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة ، وتغيرت الأحوال بعده . فتح الباري ( 13/228 ) .
وبعد استعراض كلام ابن حجر وردوده على من سبقه بخصوص حديث جابر ، ظهر لي أنه قد فاته الاطلاع على كلام نفيس لابن كثير حول حديث جابر ..
قال ابن كثير : ومعنى هذا الحديث البشارة بجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم ، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم ، بل قد وجد منهم أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة ، وبعض بني العباس ، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة ، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره .. وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامراء ، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية ، بل هو من هوس العقول السخيفة ، وتوهم الخيالات الضعيفة ، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثناعشرية ، من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم .
وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام وأن يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً ، وهم الخلفاء الاثناعشر . تفسير ابن كثير ( 2 /34 ) .
وقال في موضع آخر من تفسيره ( 3/312 ) : وفي هذا الحديث دلالة على أنه لابد من وجود اثني عشر خليفة عادل .. يكونون من قريش ويلون فيعدلون ، وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ، ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين بل يكون وجودهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً ، وقد وجد منهم أربعة على الولاء هو أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ، ثم كانت بعدهم فترة ثم وجد منهم من شاء الله ، ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى ، ومنهم المهدي .
قلت : وهذا الوجه الذي ذهب إليه ابن كثير يعد أقرب الأوجه إلى نص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل الزيادة التي وردت في سنن أبي داود عن جابر بن سمرة قال : فلما رجع – أي الرسول صلى الله عليه وسلم – إلى منزله أتته قريش فقالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج .
وهذا الهرج هو الذي يحصل في آخر الزمان ، ومن أجل ذلك فقد أخرج أبو داود في سننه أحاديث جابر بن سمرة في الخلفاء في كتاب المهدي .
ومن خلال الأحاديث التي تقدم ذكرها في الخلافة والخلفاء نستنتج المراحل التالية :-
مرحلة خلافة النبوة ، وهذه المرحلة كما تقدم انتهت بتنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه في شهر ربيع الأول من سنة 41هـ .
مرحلة الخلفاء الاثني عشر .
مرحلة المُلك العضوض .
مرحلة الملك الجبري .
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة .
وبالنسبة لمرحلة الخلفاء الاثني عشر فإنه استناداً إلى الوجه الذي ذكره ابن كثير ، فإن هذه المرحلة تمتاز بأن مداها الزمني يتخلل المراحل الأخرى كلها ، وخلفاء هذه المرحلة يكون ظهورهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً – وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة - ، ويبدأ ظهورهم من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم – أي بخلافة أبي بكر رضي الله عنه – وتكتمل هذه المرحلة بظهور آخرهم في آخر الزمان حيث يعقب خلافته ( الهرج ) .
وقد ذكر ابن كثير أن من خلفاء هذه المرحلة عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، ولما كان معاوية رضي الله عنه أفضل من عمر بن عبد العزيز ، فهذا يعني دخول معاوية رضي الله عنه في خلفاء هذه المرحلة ، هذا والله تعالى أعلم .. وقد تقدم معنا في حلقات مضت ذكر المفاضلة بين معاوية رضي الله عنه وعمر بن عبدالعزيز رحمه الله ..
وأما بالنسبة لإجابة السؤال الأول وكون معاوية رضي الله عنه خليفة أم ملكاً ، فإنه استناداً إلى حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وإلى ما تقرر من كلام ابن كثير رحمه الله حول حديث جابر ، وكذلك استناداً إلى ما تقدم من فضائل معاوية رضي الله عنه ، فإن معاوية يعتبر أحد الخلفاء الاثني عشر الذين أعز الله بهم الإسلام ..
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله في لمعة الاعتقاد : ومعاوية خال المؤمنين ، وكاتب وحي الله ، وأحد خلفاء المسلمين ، رضي الله تعالى عنهم .
و قبل أن ننتقل إلى الحديث عن شبهة أخرى ، أورد رأياً طريفاً للمؤرخ العلامة ابن خلدون في اعتبار معاوية من الخلفاء الراشدين ، فقد قال : إن دولة معاوية و أخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين و أخبارهم ، فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة . انظر هذا القول في العواصم من القواصم ( ص213) .
وقال في موضع آخر : فهو – أي معاوية – من الخلفاء الراشدين .. نقلاً عن كتاب فصل الخطاب في مواقف الأصحاب ( ص 131 ) .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة وشبهة أخرى ..
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
( 18 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
نكمل اليوم ما بدأناه من هذه السلسلة ( شبهات وأباطيل حول معاوية رضي الله عنه ) وقد تقدم معنا في الحلقة الماضية الحديث عن مسألة : هل معاوية رضي الله عنه خليفة أم ملك ؟ هل تندرج فترة حكم معاوية تحت مسمى ( الملك العضوض ) ؟ واليوم سيكون الرد إن شاء الله عن شبهة اتهام معاوية رضي الله عنه بقتل عبدالرحمن بن خالد بن الوليد ..
وقد أثيرت هذه الشبهة في الفترة التي بدأ فيها معاوية رضي الله عنه بالتفكير بأخذ البيعة لابنه يزيد ، فحاول الإخباريون أن يوجدوا علاقة بين وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وبين بيعة يزيد بن معاوية ، فذكروا أن معاوية خاف من مكانة عبد الرحمن عند أهل الشام ، فأمر ابن أثال الطبيب النصراني فدس إليه السم . انظر تاريخ الطبري (5/227 ) .
فهذه المسألة و هذه تهمة لا تستقيم ولا تصح .. خاصة وأنها تخص خليفة المسلمين شخصياً ، فإن الاتهام لا يمكن أن يثبت إلا ببينة أو شاهدين كما هو معلوم في قضاء المسلمين ..
وخبر الطبري هذا من طريق المدائني عن سلمة بن محارب الزيادي ، وبينه وبين الحدث انقطاع واضح .. هذا فيما يخص سند الطبري ..
في حين يرجع ابن الكلبي سبب القتل إلى أمر آخر وهو : أن معاوية لما عرض أمر ولاية العهد من بعده على أهل الشام ، أشاروا عليه بعبدالرحمن بن خالد ، فسكت معاوية وأضمرها في نفسه ، ثم أن عبدالرحمن اشتكى فدعا معاوية طبيبه ابن أثال وأمره بدس السم إلى عبدالرحمن . كتاب الأمثال لابن سلام ( ص 192 ) من طريق الكلبي . والبلاذري في أنساب الأشراف (4 /109 ) من طريق الواقدي وأبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني ( 16 / 197 – 198 ) من طريق المدائني وسنده كله مجاهيل .
وهذه الروايات بالإضافة إلى ضعف سندها ، يوجد اختلاف في متنها مع الواقع الملموس في ذلك الحين ، فمن المعروف أن معاوية رضي الله عنه خليفة المسلمين وأحد الصحابة الفضلاء ، ومعروف من سيرته حرصه الشديد على الإسلام والمسلمين ، وكان أعظم خلفاء المسلمين - بعد الراشدين - حلماً وعدلاً وفضلاً وسياسة وديانة ، فكيف يعقل أن يقوم بقتل أحد المسلمين خوفاً من أن يتبعه أهل الشام ؟؟!!
ولاشك أن ذلك التعليل فاسد ؛ لأن ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد في هذه الفترة التي توفي فها عبدالرحمن بن خالد ،لم يكن مطروحاً أصلاً ؛ وذلك لوجود الحسن بن علي رضي الله عنهما ..
وأمر آخر أذكره للطاعنين ، في اعتمادهم على رواية الطبري في إلصاق هذه التهمة بمعاوية رضي الله عنه ..
قلت : الطبري رحمه الله لما أورد هذه الحادثة ، أوردها بصيغة التمريض ، فقال : وفيها انصرف عبدالرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص ، فدس ابن أثال النصراني إليه شربة مسمومة – فيما قيل – فشربها فمات . تاريخ الطبري ( 5 / 227 ) .
وقول الطبري رحمه الله : ( فيما قيل ) يدل على ضعف الرواية في ذلك عنده .. بالإضافة إلى ما تقدم من ضعف سندها وتناقض متنها ..
ثم إن معاوية رضي الله عنه بيده عزل الأمراء أو توليتهم كما هو معروف ، وليس بالصعوبة على معاوية أن يطلب من عبد الرحمن بن خالد أن يتنحى عن قيادة الصوائف عل الثغر الرومي ، ومن ثم يهمله ولا يكون له أي مكانة يخشى منها .
وقد ورد أن معاوية عزله وولى بدلاً منه سفيان بن عوف الغامدي على إحدى الصوائف ، وليس هذا يشكل صعوبة على معاوية ، بل إن معاوية كان يعزل عن الإمارة من هو أعظم وأقوى من عبد الرحمن بن خالد ..
ثم كيف يقوم معاوية بقتله وقد أورد الطبري ( 5/ 231 ) ذكر غزوة البحر سنة 48هـ ، وكان قائد أهل مصر عقبة بن عامر الجهني ، وعلى أهل المدينة المنذر بن زهير وعلى جميعهم ( خالد بن عبدالرحمن بن خالد بن الوليد ) ، فكيف يرضى معاوية أن يكون ولده – أي ولد عبدالرحمن بن خالد – قائداً كبيراً بعد أبيه ؟!! هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى كيف يرضى أن يقوم ولده – أي خالد بن عبد الرحن بن خالد – بقيادة الجيش لمعاوية إن كان معاوية قاتل أبيه ؟؟!! وهل يمكن أن يخفى على ولده - خالد بن عبدالرحمن - هذا الأمر وهو أقرب الناس إليه ؟؟!!
وخلاصة ما سبق : أنها إشاعة واضحة حاولت أن تربط بين موت عبدالرحن بن خالد بن الوليد والبيعة ليزيد ، ومثلها مثل الإشاعة التي حاولت أن تربط بين موت الحسن بن علي والبيعة ليزيد بن معاوية والتي سبق أن بيينا عوارها وفسادها في حلقة مضت ..
وللفائدة : فإن ابن عساكر رحمه الله ذكر أن ابن أثال هو الذي دس السم إلى عبدالرحن بن خالد بواسطة أحد خدمه ، فقام خالد بن عبدالرحمن بقتله فرفع إلى معاوية فحبسه أياماً فأغرمه ديته وأطلق سراحه . انظر تاريخ دمشق ( 9/928 ) والإصابة لابن حجر ( 5 / 35 ) .. وهذا إجراء طبيعي من معاوية رضي الله عنه ..
ثم إن ابن أثال مات سنة 46هـ ، وذكر الواقدي في كتاب الصوائف أنه مات سنة 47هـ . تاريخ
دمشق ( 9 / 931 ) .. وبذلك تكون وفاة عبدالرحمن بن خالد على الراجح أنها قبل أن يفكر معاوية في تولية يزيد من بعده ..
ومن الملاحظ أن ابن عساكر لم يذكر شيئاً عن تورط معاوية في قتل عبدالرحمن بن خالد ، وكذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة ( 5 / 33 – 35 ) ، وكذلك مصعب الزبيري في نسب قريش ( ص 364 ) ، وكذلك خليفة بن خياط في تاريخه ..
أما ابن كثير فقد عقب على الرواية التي تتهم معاوية بقتل عبدالرحمن بن خالد بقوله : وهذا لا يصح . البداية والنهاية ( 8 / 31 ) .. وكذلك الذهبي في تاريخ الإسلام لم يشر لأي شيء . انظر ( حوادث سنة ( 41 – 60 هـ ) ص 76 – 77 ) .
عموماً فإن خبر اتهام معاوية رضي الله عنه بحادثة سم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لم يرد بإسناد صحيح ، بل هو من الأخبار المكذوبة على هذا الصحابي الجليل ..
ثم إن هناك احتمالات أخرى للحادثة .. فلعل ابن أثال غاظه أثر عبدالرحمن بن خالد في بلاد الروم وجهاده الكبير لهم ، وهم بنوا قومه وأهل دينه ، فأراد أن ينتقم لنفسه وللروم فدس لعبدالرحمن السم !!
ولماذا لا يكون امبراطور الروم هو الذي دس إلى ابن أثال عيناً ورغبه في قتل عبدالرحمن بن خالد ؟!! عموماً هي احتمالات كثيرة ولعل أحدها يكون صحيحاً ..
قلت : وقد وقع أكثر الناس في معاوية رضي الله ، ولعل الحكمة فيه أنه صدر عنه شيء ، فأراد الله سبحانه أن يجلب له الأعمال الصالحة ما دامت الدنيا ، وصدق الله حين قال { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } . ( البقرة / 216 ) .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة وشبهة أخرى ..
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
( 19 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
نكمل اليوم ما بدأناه من هذه السلسلة ( شبهات وأباطيل حول معاوية رضي الله عنه ) وقد تقدم معنا في الحلقة الماضية الحديث عن مسألة : اتهام معاوية رضي الله عنه بقتل عبدالرحمن بن خالد بن الوليد .. واليوم سيكون الرد إن شاء الله عن شبهة اتهام معاوية بشرب الخمر ..
إن مما لاشك فيه أن اتهام الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه بشرب الخمر ، يكمن وراءه أغراض وأهداف أخرى الغرض منها الطعن في دين هذا الصحابي وخلقه ، ومن ثم اتخاذ هذه التهمة ذريعة للطعن في ولده يزيد واتهامه بشرب الخمر .. كما فعلوا ..
وقد استدلوا على مطعنهم هذا برواية مبتورة عند الإمام أحمد رحمه الله كما في المسند ( 5 / 347 ) عن عبد الله بن بريدة قال : دخلت أنا وأبي على معاوية ، فأجلسنا على الفراش ، ثم أُتينا بالطعام فأكلنا ، ثم أُتينا بالشراب ، فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ، ثم قال : ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ) .
وهؤلاء المبتدعة حينما يستدلوا بهذا الحديث لم يذكروا السند ولا تتمة متن الحديث .. وإنما كان قولهم : بسند رجاله رجال مسلم !!!!
قلت : فأما السنده : قال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين ، حدثني عبد الله بن بريدة ..
وأما تتمة المتن : ( ثم قال معاوية : وكنت أجمل شباب قريش وأجودهم ثغراً ، وما شيء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن ، أو إنسان حسن الحديث يحدثني ) .
وقد حاول أهل الأهواء بهذا الخبر ، التلبيس على القارئ بأن معاوية رضي الله عنه كان ممن يشرب الخمر بعد إسلامه ، وبعد ثبوت تحريم شرب الخمر .
وهذا مندفع بأمور :-
أن لفظ الشرب لا يقتضي أن يكون المشروب خمراً .
مناولته لبريدة بن الحصيب الشراب ، فلو كان خمراً لما أخذه بريدة ، ولأنكر عليه ذلك .
أن قوله : ( ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ) هو من قول معاوية وليس من قول بريدة ، ويدل على ذلك ما حُذف من متن الخبر الذي أشرنا إليه سابقاً ، فدل على أن الشراب لم يكن خمراً ، بل لعله كان لبناً .
وكذلك فإسناد الخبر فيه لين ؛ فزيد بن الحباب في حفظه ضعف ، ومثله حسين بن واقد ..
ولكن لنفرض صحة الخبر السابق و أن ما جاء فيه ، ثبوت شرب معاوية رضي الله عنه للخمر .. لكن هل هذا الذي شربه معاوية خمراً مسكراً ، أم نبيذاً ، أم لبناً كما أسلفت ..
قلت : كانت الخمر تصنع في بلاد العرب من عدة أنواع من الفواكه ، وكان غالب العرب يشربون الخمر كمشروب مفضل في المجتمع الجاهلي .. وكان الخمر يصنع في الغالب من عصير العنب أو نقيع التمر أو العسل والحنطة والشعير .. وكان النهي بالطبع عن المسكر فقط من هذه الأصناف أو غيرها .
وكان العصير ( الشراب ) من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو العسل يسمى نبيذاً ، والنبيذ قد يتحول إلى خمر إذا جعله يتخمر ، ولذا يكون الخمر أصله من النبيذ .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب النبيذ ، ولكن إذا تجاوز ثلاثة أيام لا يشربه . مجمع الزوائد للهيثمي ( 5 / 61 ) بسند صحيح . والحكمة واضحة ، حيث كان يخشى من تغيره وتحوله إلى خمر .
وبلاد الشام مشهور بها شراب الطِّلاء ، وهو شراب من الدبس وسمي طِّلاء لأنه يشبه طلاء الإبل وهو القطران الذي يدهن به . الفتح لابن حجر ( 10 / 66 ) .
وكان أبو عبيدة بن الجرح ومعاذ بن جبل وأبو طلحة يشربون بالشلام من الطلاء ، مما طبخ على الثلث – بمعنى أنهم يطبخون الطلاء حتى يذهب منه الثلثان ويبقى الثلث - . وهذا سند صحيح كما في تعليق التعليق لابن حجر ( 5 / 25 ) .
ولهذا فقد كان معاوية رضي الله عنه لا